شعار قسم مدونات

عن جبران خليل جبران.. الواعظ الحكيم

blogs - gibran
لا يمكن الحديث عن جبران خليل جبران كواعظ حكيم دون التطرّق إلى أسباب حكمته، والألم أهمّها، كان معظم نتاجه الأدبيّ وليداً لألمه كما كان وليداً لأحلامه وخياله، رافق الألم جبران في رحلته من الطفولة وحتّى الممات، إذ عانى جبران طويلاً من ألم فقد الأحبّة، كوالدته كاملة التي اشتهرت بحكمتها، والتي توفّيت بعد صراع طويل مع مرض السلّ الذي قضى أيضاً على أخيه بطرس.

كتبت عنه والدته كاملة في مفكّرتها "إنّني أعرف في أعماق قلبي ما يقاسي من عذاب وإنّي فخورة بهذا العبقريّ الذي استقوى على واقعه".

توفّي بطرس وهو في الخامسة والعشرين مِن عمره ثمّ لفظت أمّ جبران أنفاسها الأخيرة، بكاها جبران وعبّر عن حزنه قائلاً: "ما بكيت عليها لأنّها أمّي وحسب بل لأنّها صديقتي، لقد كانت حكيمة فوق كلّ حكمة".
 

الغربة وأثرها النفسيّ والحنين للطفولة والقهر على حال الوطن المتردّي، كلّها غذّت شهوة جبران للانتقام من حالة الظلم والاستبداد والجمود.

عانى جبران أيضاً من ألم الفقر والفقد والغربة والمرض، مرحلة قاسية عبّر عنها جبران في سلسلة مقالات يظهر فيها حرقة الفراق وقساوة الدهر.

من أسباب حكمة جبران أيضاً هو طفولته الغنيّة التي قضاها في رحاب الطبيعة الخلّابة في لبنان بجوار الأرز، ولحظات التأمّل التي بقي أثرها كامناً إلى أنْ تبلور في كتاباته لاحقاً.

الغربة وأثرها النفسيّ والحنين للطفولة والقهر على حال الوطن المتردّي إبّان الحرب العالميّة الأولى وما عاشه لبنان من سلطة رجال الدين والإقطاعيّين، والظلم الذي استفحل على أيدي الأتراك، حيث نصبت المشانق للمعارضين، وعمّ الفقر ومات الناس جوعاً، كلّها غذّت شهوة جبران للانتقام من حالة الظلم والاستبداد والجمود.

شهوة كانت تزداد قوّة مع العمر والتجرِبة والنضج، والمتابع لمؤلّفات جبران يلاحظ تدرّجها من الرومانسيّة واعتماد مبدأ الضعف في "دمعة وابتسامة" إلى التحرّر مِن الضعف في كتاب "المجنون" والأرواح المتكسّرة ثمّ الثوريّة والقوّة في كتاب "النبيّ" الذي يُعدّ واحداً من أهمّ كتب الأدب باللغة الإنجليزيّة.

في كتابه "الأرواح المتكسّرة" اعتمد جبران أسلوب الوعظ من خلال القصّة، وذهب أبعد من الخطيئة لتحليل مسبّباتها، واعظاً القارئ بضرورة الابتعاد عن الحكم عن الآخرين والتوقّف عن تنصيب النفس قاضياً وجلّاداً على تصرّفات البشر، فالقاتل قد يكون مدافعاً عن عرضه، والزانية قد تكون امرأة يائسة انتهكت طفولتها غصباً، وحُكم عليها بالزواج المؤبّد من عجوز لم تُحبّه أبداً، والسارق قد يكون رجلاً شريفاً أنهكه الفقر فسرق رغيفًا ليسدّ جوعه.
 

ولا يمكن أن نتحدّث عن ألم جبران دون التطرّق لألم الحب والفراق، علاقات حبّ متعدّدة في حياة جبران.. ولكنّ أجملها على الإطلاق هي علاقة الحبّ الروحيّ والانجذاب الفكري.

اعتمد في كتاباته على تقديس الحبّ وعبّر بكلّ وضوح عن كرهه للشرائع التي تُنافي الطبيعة، ولجبران نظرة صوفيّة للإنسان والكون والحياة ، في كتابه "المجنون" عبّر جبران من خلال حكايات رمزيّة عن نقائص المجتمع البشريّ، كالصراع بين الأمم، والرغبة في احتكار الحقيقة، والاعتداد بالرأي ورفض الآخر، كما عرض في هذا الكتاب نظريّته الفلسفيّة القائمة على التقمّص، فهو يرى أنّ الخالق هو البداية والنهاية، وأنّ بعد كلّ موت ولادة جديدة.
 

 يقول جبران:
"فنحن الحقل، ونحن الحصاد، ونحن الحاصدون.. وما الشمس والأرض إلّا بداءة لشمس أعظم وأرض أعظم، وستبقيان بداءة إلى الأبد".

ولا يمكن أن نتحدّث عن ألم جبران دون التطرّق لألم الحب والفراق والبعد عن المحبوب، علاقات حبّ متعدّدة في حياة جبران كلّها انتهت بالفراق لأسباب مختلفة ولكنّ أجملها على الإطلاق هي علاقة الحبّ الروحيّ والانجذاب الفكري التي نشأت بين جبران والأديبة الفلسطينيّة اللبنانيّة "مي زيادة " دون لقاء، كان كلّ منهما ملهماً للآخر، وعبّر كلّ منهما عن شغفه وعشقه في رسائل تبادلانها على مدى عقدين من الزمان وإلى أنْ توفّي جبران بعد صراع مع المرض.
 

وقد ترك وصيّة بأن يُكتب على قبره:
جبران خليل جبران ،أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فاغمض عينيك والتفت؛ تراني أمامك..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.