شعار قسم مدونات

السنة بين مطرقة التوظيف الجائر وسنديان الحداثة الحائر (1)

blogs - qaradawi
تمثلت أهمية هذا المصدر الذي يعتبر المعوَّل الثاني في الاستدلال أهمية كبيرة في نفوس الباحثين منذ عصر التدوين، وكان هذا مع أول نص تلقته الأمة يعني ذلك أن وجود المصدر أصيل مع نشوء الخطاب.

وهو يعود لاعتبار القدسية المتمثلة في حقيقة النقل إذ تجد منتهاه النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك قيمة لا يمكن لأي قول أيا كان أن يمتلكها أو يحققها.

فنستطيع أن نقول أنه الرقم الصعب مع تهافت الأراء، وأنه القاعدة المتينة التي تندرج تحتها معادلة الأراء، فلم يكتف المسلمون بجعلها مُقَدَّمة على الأراء فحسب.

طبيعة الاختلاف قديما وحديثا هي في التوظيف الفعلي للسنة النبوية، وهذا بدا جليا حينما كان للمعتزلة توجها مختلفا عن التوجه الجمعي للأمة.

وإنما تمثلت الأهمية في الاستنباط بداية إذ هي مرتكز أصولي على اعتبارها محل النظر لمن كان شأنه استنباط الأحكام من الأدلة والسنة هي مقام للاستدلال بلا أدنى شك.

كما أنها مثلت لأهل الرواية عنصرا هاما في تحري الرواية وسبرها وتنقيحها فلم يكتفوا بالتلقي العاري عن التنقيح، ومعرفة ما يكون صالحا وما لا يكون كذلك بميزة لم تتوفر في الديانات الأخرى ألا وهي السند إذ هو الطريقة الحقيقية الواقعية لمعرفة صحة القول من عدمه.

وقد عنى أهل الفقه أيضا بهذه المادة أيما عناية إذ أفعال العباد وإن كانت بمدلولها لامتناهية إلَّا أن الشأن مع المتغير يصار فيه إلى الثابت اللامتغير في حقيقة التصور الصالح لزمانية الفتيا ومكانية الوقائع المفضي إلى المآلية الصحية الصحيحة غير المتشدق المتسلق المتضارب بين فعلية الاستدلال وحقيقة النازلة، فصاروا إلى النص وما يحتمل روحه بمناطه ومنه السنة بلا مثنوية إذ تجد بعدها أنهم وبالرغم من تهافت الواقائع والنوازل إلا أن المرجعية الثابتة هي الضابط الحقيقي لمسار الفتيا. 

فكانت السنة وجهة الباحثين من عند آخرهم وبوصلة المحررين المحقيقين، وقد واجهت السنة منذ تدوين العلوم هجمة شرسة.

فلم تسلم من المشككين على مر تاريخهم ولكن الذي يميز الفترات المتقدمة وإن اشتركت غاياتهم، إلا أن الفترة المتقدمة كانت تنقد القضية من منحى علمي إذ أفسح هذا مجالا واسعا للنقد العلمي والرد عليهم بما يقتضي الرد حتى وإن لم يكن هذا هو التوجه القديم إلا أننا نلمس واقعه مع استقرار القواعد اليوم.

فما عدنا ننقد التوجه القديم في الكلام عن المتواتر والتشكيك في صحته مثلا، أو حجية خبر الواحد ومدى فاعليته للتطبيق، أو الكلام عن الأسانيد عند أحد المصنفين .

وهذا كله ميدان نقد إذ التعامل معه يكون التعامل مع المتصور لحقيقة العلم فيبقى البرهان هو الفيصل بين الفريقين.

وطبيعة الاختلاف قديما وحديثا هي في التوظيف الفعلي للسنة النبوية، وهذا بدا جليا حينما كان للمعتزلة توجها مختلفا عن التوجه الجمعي للأمة، وممارسة الاختلاف بعضه كان لمجرده، وبعضه كان محلا للاحترام والتقدير.

وهذا يوضح جليا أن التوظيف لأدلة السنة النبوية كان ولا زال يحتاج إلى ضابط يمتنع مع وجوده وجود المؤثر الحقيقي على النص من حيث الصحة والضعف بعد الحكم عليه إما بصحة أو بضعف.

وهو يعود بنا إلى أهمية عظيمة لأمر الاستدلال، أو التوظيف إذ يعد هذا من المرونة التي امتازت بها الشريعة الإسلامية أنها أفضت إلى العقول فهم المضمون من الثوابت، وهي مراعية تماما لمقتضى العقل الذي لا يُصيِّر النصوص لهواه فتكون إلى الجور أقرب منها إلى العدل الإلهي الذي يبتغيه الله عز وجل.

ولذا لزم أن التوظيف لابد أن يراعي أمرين في غاية الأهمية وهما:
أولا: ما يستدل به.
ثانيا: ما يستدل عليه.

فلو استدل بحديث ليوظفه على نازلة لا مناسبة بينها وبين النص جار على النصوص، ومراعاة ما يستدل به يسلزم معرفته التامة بدلالات الألفاظ إذ مع العام المراد به العموم لا يصلح أن يكون بطبيعة الحال مخصوصا إلا بنص مماثل.

ومراعاة هذا يستلزم المقاصدية من وراء الاستدلال فسد الذرائع مع الإيغال فيه جور ينافي غاية الخطاب الشرعي في مراعة مصالح الناس جملة.

ومن هذا أن تجد نصا صريحا نبويا يقول بالتيسيير على الناس جملة ومن البداهة أن يكون هذا من المطلقات في السنة النبوية.

السنة النبوية لابد أن يراعى فيها أمور: أولها: الرواية المنقحة. ثانيها: طبيعة الاستدلال ومن المؤهل ليستدل. ثالثها: التوظيف الصحيح.

ثم تجد من يوظف بعض النصوص الحديثية لأغراض اشتهائية بل وغريزية في بعض الأحيان حتى أنك لتجد أن التوظيف المعاصر هو أقرب إلى الغوغائية منه إلى العقلانية. ولتخرج بعدها حركة الضد لتقابل السيء بما هو أسوء لترد النصوص بدلا من أن تدرس طبيعتها وطبيعة الاستدلال المعتدل الموصل إلى الغاية المثلى بما يستدل به ويستدل عليه .

وجعلت من الموظفين للنصوص آلهة وجعلت لهم هالة مقدسة في نفوس الناس، ومن ثم كان معول الهدم الذي هدموا به السنة إذ لم يفرقوا بين التوظيف والدليل وهذا يجعل منا مبعثرين لا أكثر !! إذ بعد جعجعة لا نرى منها قمحا تظهر أقلام طاعنة باسم الحداثة لتوجه الدفة لها بكل الوسائل براية مضمونها أن المقدس لا أصل له في حياتنا.

وتناسى هؤلاء أن عامل الدين كان مهما في نهضة الدول واستناد البعض على الثورة العلمانية على الكنيسة في أوربا هذا كان في فرنسا وهذا التوجه إنما كان لتسلط الكنيسة على الحياة الاجتماعية مما أدى إلا اضطراب المنظمومة المجتمعية فصار ما صار وإلا فإن النهضة في أوربا كانت نهضة علمية بداية تستند إلى المقدس وإلى التوجه الإنساني فساهمت الموسيقى مثلا بجمعهم وكذا الدين.

لذا فإن السنة النبوية لابد أن يراعى فيها أمور:
أولها: الرواية المنقحة. ثانيها: طبيعة الاستدلال ومن المؤهل ليستدل. ثالثها: التوظيف الصحيح.

فلو راعى الطرف الموظف هذه الأمور الثلاثة كان من الصعب جدا أن يكون هناك مدخل لشبهة إذ تزايد الأخطاء ينتج عنه تزايد الشبه والشبهة لا تقوم مقام الاستدلال كما يظن البعض غير المؤصل بل هي قائمة مقام الدليل وقد لا تستوعب العقول تعارض الأدلة لأن هذا يعني أن الشارع أمر بالضدين وهذا لا يجوز.

وبعد هذا لنراعي كمستدلين مصالح الناس و لنراعي كحادثيين مصالح النصوص والله المستعان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.