شعار قسم مدونات

الخطاب الإمبراطوري والتغيرات السياسية في اليابان والمنطقة (٢)

blogs - japan
أهم التطورات الأمنية والسياسية في جنوب شرق آسيا:
لعل من أبرز التطورات الأمنية التي حصلت في منطقة شرق آسيا في الفترة الأخيرة إعلان رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي سلسلة من التشريعات الغاية منها تغيير النظرة اليابانية إلى القوة العسكرية ودورها، ومن ذلك السماح للقوات المسلحة اليابانية بلعب دور في حفظ السلام العالمي خارج الحدود، واتفاقية الشراكة الإستراتيجية التي وقعها مع الرئيس الأمريكي أوباما،  وهي جميعا من الأمور التي كان ينظر لها على أنها مخالفة للدستور الياباني الذي يمنع اليابان من امتلاك قوة هجومية، أو المساهمة في النزاعات المسلحة خارج نطاق الدفاع عن النفس.

جاءت هذه القوانين في الوقت الذي تشهد فيه منطقة المحيط الهادي تجاذبات عسكرية بين الصين من جهة والولايات المتحدة وحلفاءها اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا من جهة أخرى حول حرية الملاحة وتعريف المياه الإقليمية للصين.

خرجت اليابان من حربها على الصين وقد ذاقت حلاوة النصر وهي أكثر ثقة بنفسها من السابق مما زاد في شهية العسكر للمزيد من المغامرات.

هذه الأمور منفردة ومجتمعة تهم المنطقة، لذلك أردنا أن نقدم هذه الورقة التي تشتمل على دراسة خلفية الخطوات اليابانية وطبيعتها وآثارها المحتملة على توازن القوى في المحيط الهادي وخاصة بين اللاعبين الأساسين هناك اليابان والصين والولايات المتحدة.

لذلك كان ولابد من العودة الى التأريخ البعيد لكي نفهم مواقف القوى الإقليمية مثل روسيا والصين وكوريا من اليابان وحساسيتها الشديدة تجاه القوة العسكرية اليابانية، وكذلك التأريخ القريب لنهاية الحرب العالمية الثانية التي خاضتها اليابان وخسرتها تلك الخسارة المدوية وما نتج عنها من خراب ودمار، ومن وضع أمني لايريد العديد من اليابانيين التفريط فيه تحت أي مبرر.

مبررات الخوف في اليابان ودول الجوار من المؤسسة العسكرية اليابانية:
أخذت إصلاحات الإمبراطور الشاب ميجي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، التي وحدت اليابان وأنشأت صناعات متطورة على النموذج الأوروبي تؤتي ثمارها فازدادت ثقة الياباني بنفسه كما وزادت من حاجة اليابان إلى الأسواق والمواد الأولية التي هي بأمس الحاجة لها، فوجدت نفسها وجها لوجه في منافسة مع العديد من القوى الإقليمية والعالمية، وكان أول هذه القوى الإمبراطورية الصينية المتهالكة التي تمتلك العديد من الموارد الأولية التي تحتاجها الصناعة اليابانية وفي مقدمتها الفحم الحجري والمعادن.

لذلك فكرت اليابان في بسط نفوذها على منشوريا وشبه الجزيرة الكورية. قامت اليابان بإعلان الحرب على الصين في عام 1894م واستطاعت قواتها الحديثة التسليح أن تهزم القوات الصينية التقليدية وأن تفرض عليها الاستسلام والقبول بشروطها المجحفة لإيقاف الحرب، والتي كان منها تنازل الصين لليابان عن كوريا ومنشوريا وجزيرة فرموزا "تايوان"، وأن تفتح موانئها أمام السفن اليابانية وتقوم فوق ذلك كله بدفع غرامات وتعويضات حرب لليابان.

خرجت اليابان من حربها على الصين وقد ذاقت حلاوة النصر وهي أكثر ثقة بنفسها من السابق مما زاد في شهية العسكر للمزيد من المغامرات. تزامن ذلك مع ظهور منافس إقليمي آخر يطمع الى ملء الفراغ الذي حصل باندحار الصين أمام اليابان، وهو روسيا القيصرية التي هي الأخرى التي أصبحت بحاجة ماسة ليس الى الموارد الطبيعية بل إلى الوصول إلى المياه الدافئة جنوبا، ذلك أن الميناء البحري الجديد الذي دشنته في "فلاديفوستوك" لم يكن يصلح للملاحة في موسم الشتاء فاتجهت صوب ميناء "بورت آرثر" في منشوريا.

هذا الاندفاع الروسي وضعها في جبهة صدام مع المصالح اليابانية في المنطقة وأوصل الأمور الى حالة الصراع العسكري المباشر. فشلت جميع الجهود الرامية الى الوصول إلى حل عن طريق التفاوض بين الطرفين، فأعلنت اليابان الحرب على الإمبراطورية الروسية في شباط/فبراير عام 1904، وبادر الأسطول الياباني بمفاجأة الأسطول الروسي في "بورت آرثر" وذلك من خلال القيام بهجوم مباغت قبيل إعلان الحرب بساعات وألحق به خسائر فادحة[1] لم يستطع بعدها الأسطول الروسي، الذي أفقدته الهجمة اليابانية المفاجئة توازنه من استرجاع زمام المبادرة، واضطرت روسيا بعد خسارة عدة معارك أخرى من القبول بمبادرة السلام الأمريكية خصوصا وأن الضغوط الداخلية في روسيا أخذت بالتزايد لأنه لم يعد هناك من يعتقد بإمكانية القوات الروسية الصمود أمام اليابان وقواتها الحديثة.

كانت نتيجة المفاوضات بين الطرفين التوقيع على اتفاقية "بورتسموث" والتي تنازلت بموجبها روسيا عن نصف جزيرة ساخالين لليابان وأقرت بحق اليابان في إيجار ميناء "بورت آرثر" لمدة 25 سنة.

كان الانتصار الياباني غير المتوقع كبيرا، كما وأنه يمثل المرة الأولى التي تنتصر فيها قوة آسيوية على قوة أوربية عظمى في العصر الحديث. هذا الانتصار الياباني أحدث تغييرا بموازين القوى العالمية أصبحت اليابان بمقتضاه من القوى الإقليمية الصاعدة التي يحسب لها حساب ومهد لها الطريق لكي تصبح من القوى العسكرية العالمية التي خاضت الحرب العالمية الأولى مع الحلفاء وخرجت منها منتصرة وبأقل الخسائر.

هذه الانتصارات على القوى الإقليمية المنافسة التي جاءت بعد عقود قليلة فقط من توحيد اليابان التي كانت حينها من أضعف دول المنطقة وتملى عليها الاتفاقات من جانب واحد فأصبحت هي التي تملي شروطها على الدول المجاورة، مكنت المؤسسة العسكرية في اليابان من تقوية نفوذها والإمساك بزمام الأمور داخليا وأحكام قبضتها على العملية السياسية من خلال تغذية المشاعر الشوفينية، فأصبحت هي الحاكمة الفعلية خصوصا مع صعود الأمبراطور "هيروهيتو" عام 1921 بوصفه وصيا على عرش والده، وإمبراطورا عام 1926 بعد وفاة والده الإمبراطور "تايشو"، والذي شهد عهده ازدهارا للديمقراطية والمشاركة السياسية، وهي الأمور التي لم تكن تريح العسكر.

نهاية الحرب العالمية الثانية ونزع سلاح اليابان:
دخلت اليابان الحرب العالمية الثانية الى جانب المحور، المكون من ألمانيا وإيطاليا، هذه المرة. وضعت الحرب أوزارها في أوروبا بعد سنوات عجاف من الدمار وعشرات الملايين من القتلى، فعقد قادة دول الحلفاء المنتصرة لقاء قمة في مدينة "بوتسدام" القريبة من العاصمة الألمانية "برلين" في الفترة بين 17 يوليو/تموز و2 أغسطس/آب 1945م حضره الرئيس الأمريكي "هاري ترومان" والرئيس الصيني "تشانغ كاي شيك"، و"جوزيف ستالين" رئيس الاتحاد السوفيتي ورئيس الوزراء البريطاني "تشرشل" والذي خسر الانتخابات العامة في بريطانيا أثناء حضوره المؤتمر ولذلك إضطر لمغادرة المؤتمر الذي تأخرت اجتماعاته لحين حضور رئيس الوزراء العمالي الجديد "آتلي".

كان اللقاء قبيل استسلام اليابان، ولذلك أرسل القادة المجتمعون رسالة شديدة اللهجة الى القيادة اليابانية بضرورة إنهاء الحرب أو مواجهة العواقب، كذلك قاموا بوضع شروط الاستسلام أمامها والتي من أهمها:
– يجب إزالة كل سلطات وتأثير القيادات التي خدعت وأضلت الشعب الياباني في سبيل خوض مغامرة غزو العالم، ونحن نصر على إقامة نظام مبني على السلم والعدالة والأمن وأن هذا سوف يكون مستحيلا حتى يتم إزالة النزعة العسكرية من العالم.

– وإلى أن يتم التأكد وبالدليل القاطع أن الآلة الحربية قد أزيلت، فإن اليابان سوف تبقى تحت احتلال قوات الحلفاء وذلك لضمان تحقيق البنود التي تم الاتفاق عليها.

– القوات المسلحة اليابانية بعد أن يتم نزع سلاحها سوف يسمح لأفرادها بالعودة إلى ممارسة حياة مدنية.

– على الحكومة اليابانية العمل على إزالة كل العوائق أمام الديمقراطية وحرية التعبير وحرية العبادة.

– يسمح لليابان بالحفاظ على الصناعات الضرورية لضمان إدامة الاقتصاد ودفع تعويضات الحرب ويستثنى من ذلك الصناعات التي تمكنها من إعادة التسلح.

– قوات الحلفاء سوف تنسحب من اليابان عندما يتم تحقيق هذه الشروط وسوف يتم إقامة حكومة مسالمة حسب اختيار ورغبة الشعب الياباني.

يتضح بأن إعلان "بوتسدام" الذي صدر في 2 أغسطس/آب 1945 لم يشر بأي شكل من الأشكال إلى أن اليابان معرضة للتدمير بالسلاح الذري في حالة عدم الاستجابة لمطالب الحلفاء.

يعتقد البعض بأن الرئيس "ترومان" أطلع "جوزيف ستالين" في أثناء المؤتمر على أن الولايات المتحدة قد طورت السلاح النووي وأنها تنوي استخدامه ضد اليابان لإجبارها على الاستسلام، حيث قامت الولايات المتحدة بإلقاء القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما بعد صدور إعلان بوتسدام بأربعة أيام وتبعتها بقنبلة أخرى على مدينة "ناكازاكي" بعد هيروشيما بثلاثة أيام فقط، لتعلن اليابان استسلامها بناءا على اساس إعلان بوتسدام في الخامس عشر من أغسطس/آب، ولتصبح اليابان بعدها تحت احتلال قوات الحلفاء بقيادة القائد الأعلى لقوات الحلفاء في المحيط الهادي الجنرال مكارثر، الذي بدوره قام بمساعدة اليابانيين على صياغة دستور جديد يضع شروط الحلفاء موضع التنفيذ، حيث جاءت المادة التاسعة من الدستور الياباني الجديد والتي نصت على نزع سلاح اليابان على الشكل التالي:

"ترنو اليابان بإخلاص إلى سلام عالمي شامل قائم على العدالة والنظام، ولذلك فإن شعب اليابان ينبذ الحرب كحق سيادي للدولة والتهديد أو إستخدام القوة في فض النزاعات الدولية، ومن أجل تحقيق ما ورد أعلاه، فإن إمتلاك أية قوات برية أو بحرية أو جوية أو أية قوات أخرى تمتلك القدرات على شن الحروب لن يسمح بإمتلاكها، كما وأن حق الدولة في الإعتداء لن يعترف به أبدا".

عوضت اليابان الإنفاق على القدرة العسكرية بالاعتماد على أنظمة السلام والأمن العالميين من خلال لعب دور نشيط في المحافل الدولية وخصوصا الأمم المتحدة.

جاءت هذه المادة بناءا على رغبة الحلفاء وأيضا الجمهور الياباني الذي ضاق ذرعا بالمؤسسة العسكرية اليابانية، التي في رأيهم أدخلت البلاد في مغامرات عسكرية خارجية لم تجن اليابان من وراءها إلا الخراب والدمار وسيطرت على الإمبراطور والحياة العامة وخنقت الحريات.

كما وأن قادة اليابان الجدد الذين ورثوا البلاد في حالة دمار شامل وشعب جائع يبحث عن لقمة العيش، كان همهم الأول توجيه الجهود نحو تضميد الجراح وإعادة الإعمار وبناء إقتصاد متطور يوفر لليابان الموارد التي تفتقدها، كل ذلك كان يقتضي تقليص الإنفاق العسكري وتوفير الموارد نحو إعادة هيكلة الاقتصاد.

اعتمدت اليابان في هيكليتها الجديدة على مبدأين مهمين في سبيل تحقيق أمنها، وهما الاعتماد الكلي على المنظومة الأمنية الأمريكية والعمل من خلال المنظومة الدولية على تحقيق الأمن العالمي. وهي الأسس التي بنيت عليها اتفاقية سان فرانسيسكو لعام 1951 التي اشملت على اتفاقيتين هما:

الأولى معاهدة السلام المسماة بمعاهدة سان فرانسيسكو الموقعة بين اليابان ودول الحلفاء والتي انتهت بموجبها حالة الحرب، تعهدت بموجبها اليابان بدفع تعويضات الحرب لدول الحلفاء وللمتضررين من الأسرى الذين أساءت اليابان معاملتهم. هذه الاتفاقية بنيت على أسس ميثاق الأمم المتحدة والإعلان الدولي لحقوق الإنسان.

أما الوثيقة الثانية فهي اتفاقية التعاون الأمني بين الولايات المتحدة واليابان والتي عرفت "بنظام سان فرانسيسكو" التي منحت اليابان الإستقلال السياسي تحت الحماية الأمريكية، واحتفظت الولايات المتحدة بموجبها بحق استخدام القوة على الأراضي اليابانية من أجل الحفاظ على السلم في منطقة شرق آسيا، وكانت الصياغة الأولية تمنح الولايات المتحدة الحق في استخدام القوة لفض النزاعات الداخلية في اليابان.

بالإضافة إلى اعتماد اليابان على الولايات المتحدة في توفير الحماية العسكرية فقد عوضت عن القدرة العسكرية بالاعتماد على أنظمة السلام والأمن العالميين من خلال لعب دور نشيط في المحافل الدولية وخصوصا الأمم المتحدة ومؤسساتها ومنها مجلس الأمن. هذه الأمور مكنت اليابان من تقليل إنفاقها العسكري إلى الحد الأدنى ووفرت الإمكانيات لذلك فقد كان الإنفاق العسكري الياباني يعتبر الأقل بين الدول المتقدمة.
 

__________________________________
[1] كان الميناء من أكثر المناطق تحصينا وبلغ عدد الجنود الروس فيه حوالي 50 ألف جندي. قدرت الخسائر الروسية نتيجة حصار بورت آرثر بحوالي 30 ألف بين قتيل وجريح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.