شعار قسم مدونات

رحلة مدون.. كان لابد لليل أن ينجلي

blogs-ارحل بن علي

العلم نور على رأي الشافعي.. وظلمة الاستبداد ما بعدها ظلمة على رأي الكواكبي
بينما كان الثوار في سيدي بوزيد وتالة يواجهون قوات الأمن في الأيام الأولى للانتفاضة، كنت بأحد الفنادق بمنطقة الحمامات رفقة ثلة من الأصدقاء، لم تكن رحلة استجمام على الإطلاق، فقد كنا نشارك في ملتقى تدريبي حول الصحة الجامعية حيث يكثر الحديث عن التبرع بالدم والإيدز، وضرورة استخدام الواقي الذكري أثناء العلاقة الجنسية.. كان جزء من أنشطة النادي الصحي الذي أسسته بالمدرسة الوطنية للمهندسين بقرطاج.
 

عدت إلى العاصمة أواخر ديسمبر 2010 وبدل الانشغال بالإعداد لامتحانات السداسي الأول أو الانخراط المبكر في الحراك الثوري غصت في كتب التاريخ باحثا عن إجابات شافية لجملة من التساؤلات التي استفزتني تساؤلات تبادرت لذهني بعد أن سمعت أغنية "Manipulation" لمحمد الجندوبي "Psyco M" والتي أثارت جدلا كبيرا في الأوساط النخبوية.. بين من اعتبرها حرية تعبير وصرخة غير مسبوقة زمن القمع، ومن رأى فيها تجاوزا خطيرا وانسلاخا من الهوية الوطنية والنمط المجتمعي التونسي الحديث.
 

خشيت أن تحول قوات الأمن المنتشرة في لباس مدني دون وصولنا وتجمعنا، فلم نكن أبدا على ثقة في كلام رئيسهم ولا وعوده بضمان الحريات والتي عودنا على نكثها 

مضت الأيام بسرعة.. ومضى الطريق سريعا في جدالنا حول وعود بن علي والهزيمة التي بدت على ملامحه أثر خطابه الأخير.. وجدوى نزولنا صبيحة الجمعة لوسط العاصمة. كنت أرى أن الوضع سيبقى على ماهو عليه وإن سقط رأس النظام، وإن تنحى بن علي لم تكن حنكة سياسية ولا استقراء لمجريات الأمور، ولكنني تأثرت لفترة بنظرية المؤامرة. واعتقدت حينها أن من عين بن علي سيعين غيره وانتهى، ولا جدوى من تحركاتنا غير إيقاف نزيف الشهداء والجرحى الذي لم نتعود عليه، وصدمتنا مشاهد دمائهم في فيديوهات الرقاب ومستشفى القصرين..
 

ترجلنا وحاولنا أن لا نجلب الانتباه حتى نتمكن من الوصول إلى شارع الحبيب بورقيبة. أذكر جيدا خفقات قلبي مع اقترابنا من مقر وزارة الداخلية، فقد خشيت أن تحول قوات الأمن المنتشرة بكثافة في لباس مدني دون وصولنا وتجمعنا، فلم نكن أبدا على ثقة في كلام رئيسهم ولا وعوده بضمان الحريات والتي عودنا على نكثها أكثر من أي شيء آخر.
 

"لن نبرح عتبات المسرح، نحن فنانون، يمكنكم اتباعنا" كانت هذه الكلمات كفيلة بإشعال فتيل غضب "حازم" بعد أن رفضت مجموعة من المحتجين أمام المسرح البلدي الالتحاق بالجزء الأكبر المحتشد أمام وزارة الداخلية "كلنا توانسة وكلنا مواطنون.." صرخ حازم واسترسل في الكلام ولم أنتبه حتى وجدتني وسط الجموع التي تحركت أخيرا نحو مقر الوزارة مرددين بصوت واحد "خبز وماء وبن علي لا" ويا له من شعار!

كانت الأجواء أكثر من رائعة، شعرنا بقوة الوحدة وكان لسان حالي يقول: إن كنتم هرمتم فقد ولدنا من أجل هذه اللحظة التاريخية، وأدركنا أن بن علي سيرحل بمجرد سماع دوي "Degage" (ارحل) وسيبكي ندما وحسرة، نعم أعتقد أنه ذرف الدموع.
 

اختلط أملنا بشيء من الخوف، فقد كان من غير المنطقي أن تكتفي قوات البوليس بمراقبتنا ومنعنا من تخطي الدرع البشري الذي كونوه أمام مقر الوزارة، ورغم أن بعضهم تأثر وبكى مؤكدا اصطفافه مع الشعب فقد كانت الثقة شبه منعدمة بين الطرفين وقد قتلوا وجرحوا العشرات من أبناء جلدتهم في مختلف الولايات. صلينا الجمعة على عجل، ولم أسمع كلمة واحدة من الخطبة إلا أنني علمت فيما بعد أن الإمام لم يدخر جهدا في دعائه لبن علي "نحن بخير.. فطرنا كسكوت ملاوي"، لم تتوقف والدتي عن الاتصال من حين لآخر كي تطمئن على سلامتنا ولم تنسى في كل مرة أن تختم حديثها بالقول "در بالك على أخوك".

رغم أن بعضهم تأثر وبكى مؤكدا اصطفافه مع الشعب فقد كانت الثقة شبه منعدمة بين الطرفين وقد قتلوا وجرحوا العشرات من أبناء جلدتهم في مختلف الولايات

ياسين أو "الشقنوص" كما يحلو لمشرفي اتحاد صفحات الثورة تسميته، كنا سويا بأعلى العمارة المحاذية لوزارة الداخلية عندما لاحظنا موكبا مهيبا يتجه نحو الجموع، كانت جنازة شهيد باب الخضراء "حلمي المناعي" أخبرته بأنني سأنزل وقال بأنه سيراقب المشهد من الأعلى، ويلتقط بعض الصور البانورامية، وبمجرد بلوغ المسيرة باب الوزارة، دقت ساعة الصفر وتتالت أعيرة الغاز المسيل للدموع.
 

وجدتني مجددا وسط موجة بشرية تتأرجح بين أطراف شارع الحبيب بورقيبة، تأرجحت حتى تفتتت، كر وفر.. وتفاصيل لا تسعفني الكلمات لتبليغها. تجمعنا مجددا بسيارة "عصام" حيث تركناها، وافتقدنا ياسين وفقدنا كل اتصال به. "علينا أن نتحرك لقد أعلنت حالة الطوارئ" لم أكن أصغي لما يقوله الشباب فقد علقت كلمات أمي بذهني وأصبت بحالة من الذهول.
 

كنا قد استسلمنا وقررنا العودة.. عندما اتصل والدي ليبلغنا بأن ياسين كلمه وأنه لجأ لأحد المنازل بنفس العمارة ولن يتمكن من الالتحاق بنا، عدنا سريعا لننهمك مجددا بين فيسبوك وقناة الجزيرة وإعلان الغنوشي استلامه مقاليد الحكم. كانت ليلة طويلة أطربنا فيها الأستاذ الناصر العويني بمقطع "بن علي هرب.." لا أدري كيف قضاها ياسين لكن تفكيرنا الجم كان في عودته سالما من أكثر النقاط سخونة حينها، وكان لا بد لليل أن ينجلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.