شعار قسم مدونات

الغناء في الأبعاد الجديدة

hamza Namira
ولد في حلب آنذاك، حيث أهمّ مراكز الطرب والغناء في العالم العربيّ. تربّى صباح أبو قوس في عائلةٍ محافظةٍ، حيث كان أبوه مقرئًا ومدرّسًا للقرآن، وكان يرتاد حفلات الإنشاد الصوفيّة والموالد، وقيل أنه كان مؤذّنا في أحد مساجد أحياء حلب.

ظهرت موهبة الفنّان -الذي سمِّي بعد ذلك صباح فخري- مبكرًا في مرحلته الإعداديّة، مما كان يؤهّله ألّا يتقيّد بنمط غنائّي قديمٍ يحصره بين جذور عائلته المحافظة على الغناء الصوفّي. بل كانت موهبته فائقةً حتى أنها لم تجعله يكتفي بالعالم العربيّ فقط، بل أطلقته أيضا إلى مراكز الغناء في الشرق والغرب والحصول على الجوائز العالميّة. لم يكن صباح فخري مخيّرًا، بل كان مقيّدًا ضمن خيارين، خيارٌ يربطه بجذور عائلته أكثرَ لكن يقيّده في ضمن إطارٍ هزيلٍ، كمنشدٍ للموالد والحفلات "الدينية" بنمط تقليديّ، أو أن ينفصل عن ذلك فيختار الفنّ ذو المستوى العالي من الإبداع، لكنّه فنٌّ سيءُ السمعة عند بعض فئات الشعب، لأنّه فنّ مرتبطٌ بالخلاعة والمجون. لم يكن غيرُ هذين القالبين ممكنًا في تفكير صباح فخري أو غيره.

أنّ ارتباط الفنّ بالإسلاميّة لا يعني اختزاله في مواضيع العبادات والشّعائر الدّينيّة، بل هو فنّ إسلاميّ طالما تناغم مع المقاصد الإسلاميّة وأدّى رسالةً إنسانيّة هادفةً.

أتى بعد ذلك ما يسمّى بزمن الصحوة، وانتشر نوعٌ جديدٌ من الغناء سمي بـ "النّشيد"، يقوم على أصوات كثيرٍ من المنشدين "المغنيين" أصحاب الأفكار الإسلاميّة. كان في بدايته بلا موسيقى، فقد ارتبط زمن الصحوة بالإسلاميّين الذين يحرّمون الموسيقى. حظي هذا النوع من الغناء على إعجاب نطاقٍ واسعٍ من الإسلاميّين، خصوصًا الذين تأثّروا بالجهاد الأفغانيّ والشّيشانيّ. كان عندهم كبَرَاءة اختراعٍ مقابل النّشيد الصوفّي التّقليديّ، كما أنّه سار موازيًا منافسًا للنّمط الحديث من الغناء السّائد في العالم العربيّ. أحدث هذا النّشيد قالبًا جديدًا، لكنّ هذا القالب لم يختلف في مبادئه عن النّشيد الصوفيّ، فقد كان نشيدًا دينيًّا مرتكزًا على المعنى الطّقوسيّ المختزِل للدّين والمقتصر على الشّعائر والعبادات، كما في الإنشاد المسيحيّ، ولم يكن فنّا عامًّا يربط إسلامَ الناس بحياتهم، أو يعبّر عن طموحاتهم وأحلامهم ومشاعرهم.

تضخّم الانفصال بين ما سمِّي بالنشيد وما سمّي بالغناء، فصار النّشيد "إسلاميًّا" والغناء "غير إسلاميّ". حتى أطلقت فتوى بتحريم الصّلاة في مسجدٍ قام ببنائه الفنّان محمّد عبده في جَدّة بدعوى أنّ ماله الذي يكسبه من الغناء مالٌ حرام. وعُدّ موتُ فنّانٍ وهو يغنّي، خاتمةً سيّئةً. واعتبرت عودة فنّان عن الغناء "توبةً" يستحقّ النّدم عليها وإشهارها أمام النّاس أجمعين فيطلقون التّكبيرات فرحًا. وصلت الفجوة إلى حالة انشقاقٍ كما بين طائفتين دينيّتين أو تيّارين فكريّين يتّهم أحدهم الآخر ويحاول استقطاب النّاس حوله، والدّعوة إلى سماعه، والكفّ عن سماع ذلك الآخر.

انتشرت بعد ذلك فتوى إباحة الموسيقى لكثيرٍ من العلماء، فكانت هزّةً لجمود الفريقين. إذ كانت الموسيقى سببًا رئيسيًّا في انفصالهما الشّديد. وانتشر بعد ذلك نوعٌ جديدٌ من الغناء، "نشيديٌّ" بطعم السّابق لكنّه "موسيقيٌّ" كالغناء السّائد. تطوّر الأمر إلى قيام "النّشيد" بسرقة بعض الألحان من الأغاني المنتشرة، مما زاد التّهمة تهمةً عند الذين ما زالوا على موقفهم تجاه الغناء، معتبرين أنّ هذا النوع من الإنشاد ليس إسلاميّا، بل هو غناءٌ محرّم كباقي الأغاني.

لم يرتبط الغناء بالخلاعة إلا عندما تركه الناس لأصحاب الخلاعة، فبقي محصورًا في القوالب التي وضع فيها.

أثارت هذه التّناقضات أسئلةً عند كثيرٍ ممّن تأثّروا بالمفاصلة السّابقة بين الغناء والنّشيد، فسألوا أنفسهم "لماذا كانت تلك الأغاني محرمةً ما دمنا ننتج ما يشبهها؟". هذا السّؤال الذي جرّ بعض الفنّانين، وأشير هنا إلى اثنين من الذين قاموا بثورة في مجال الفنّ، أوّلهم حمزة نمرة والثاني رشيد غلام. هؤلاء الذين كسروا جمود الصناديق السّابقة التي لم يستطع صباح فخري سابقًا حتّى أن يفكّر فيها. أنتجوا كثيرًا من الأغاني التي يستحيل تصنيفها إسلاميّةً أو غير إسلاميّةٍ حسب المعايير القديمة. بل أثبتوا أنّ الفنّ عمومًا والغناء خصوصًا، لا يتناقض مع الدّين الإسلاميّ.

فليس هناك فنّ إسلاميٌّ دينيّ قياسًا على الفنّ المسيحيّ. بل الإسلام يدعم الفنّ عامّةً إذا ما التزم بالقوانين الكبرى التي لا تخرج عن مجال الأخلاق الإسلاميّة. فالغناء الذي يتحدّث عن الحبّ هو إسلاميٌّ طالما لم يخرج عن المجال الأخلاقيّ والعقديّ للإسلام. والفنّ الذي يتحدث عن تراثٍ فلسطينيّ، أو شاميّ، أو خليجيّ، أو مصريّ، أو مغربيّ، هو فنّ إسلاميّ. لقد أوجد هؤلاء الفنّانون معادلةً جديدةً، أنّ ارتباط الفنّ بالإسلاميّة لا يعني اختزاله في مواضيع العبادات والشّعائر الدّينيّة، بل هو فنّ إسلاميّ طالما تناغم مع المقاصد الإسلاميّة وأدّى رسالةً إنسانيّة هادفةً.

لم يرتبط الغناء بالخلاعة إلّا عندما تركه الناس لأصحاب الخلاعة، فبقي محصورًا في القوالب التي وضع فيها. فالغناء هو النّشيد والمعنى اللّغويّ لهم واحدٌ، وأمّا المعنى الاصطلاحيّ الذي صُنِع لهما فإنّه يهدم ويفصل بين ما لا يستحقّ الفصل، ويقوّض الفنّ الذي نحتاجه جميعًا للرّقيّ بالقوالب الجماليّة التي نصنعها. فلا توجد أمّةٌ ولا ثقافةٌ عاشت بلا فنّ، حتّى الأوساط التي تحارب الغناء أوجدت ما يسمّى بالنّشيد لأنّ الفنّ حاجةٌ إنسانيّة لا يستطيع الإنسان التخليَّ عنها مهما ادعى ذلك.

ولا يستطيع مجتمعٌ أن يبتعد عن الفنّ أبدًا، ولذلك أصيبت دعوات الابتعاد عن الغناء بالفشل، رغم محاولات الترهيب والترغيب الشّديدة. الفنّ ميدانٌ إنسانيٌّ يجب خوضُه بروحٍ إنسانيّةٍ ورسالةٍ ساميةٍ ومشاعر نبيلةٍ، وهو للإنسان كلّه منطلقًا من روح الإسلام كلّه.. لا ذاك المختزل في الشعائر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.