شعار قسم مدونات

العقل والعملية الفكريّة

blogs-العقل

الفكر والإدراك والعقل بمعنى واحد، فهي أسماء متعددة لمسمى واحد، ويطلَق الفكر ويراد منه التفكير أي العملية التفكيرية، وقد يطلَق ويراد منه نتيجة التفكير، أي ما توصّل إليه الإنسان من العملية التفكيرية. وليس للفكر بمعنى التفكير عضو خاص به حتى تصح الإشارة إليه، بل هو عملية معقدة تتكون من الواقع المحسوس وإحساس الإنسان ودماغه والمعلومات السابقة لديه. وما لم تجتمع هذه الأشياء الأربعة في عملية معينة لا يمكن أن يحصل فكر ولا إدراك ولا عقل.
 

ولذلك أخطأ القدامى حين بحثوا العقل، وصاروا يحاولون تعيين مكانه في الرأس أو القلب أو غير ذلك. والظاهر أنهم كانوا يظنون أن العقل عضو معين أو أن للعقل عضواً معيناً. وأخطأ المحدثون حين جعلوا الدماغ هو محل العقل والادراك والفكر، سواء الذين قالوا إن الفكر هو انعكاس الدماغ على الواقع، أو الذين قالوا إن الفكر هو انعكاس الواقع على الدماغ، لأن الدماغ عضو كسائر الأعضاء لا يحصل منه أي انعكاس، ولا يحصل عليه أي انعكاس. لأن الانعكاس هو تسليط الضوء على الشيء وارتداده عنه، وتسليط الشيء على جسم فيه قابلية الانعكاس وارتداده عنه مع وجود الضوء.

الدماغ ليس محل الفكر، والذي يحصل هو أن الواقع المحسوس تنتقل صورة عنه إلى الدماغ بواسطة الحواس، وتكون هذه الصورة بحسب الحاسة التي نقلت الواقع

وذلك كتسليط مصباح كهربائي على جسم ثم ارتداد الضوء عن هذا الجسم، فيُرى الجسم ويُرى الضوء. أو تسليط الشمس أو القمر أو أي ضوء من أي جهة. وكتسليط جسم على مرآة مع وجود الضوء، يرتد الضوء، وترتد صورة الجسم عن المرآة، فيُرى كما هو. إذ ترتد صورة الجسم كأنها ارتسمت خلف المرآة فرؤيت، وهي في حقيقتها لم ترتسم وإنّما انعكست كما ينعكس الضوء على أي جسم. فهذا هو الانعكاس.
 

وفي عملية الفكر لا يحصل أي انعكاس، فلا يحصل فيها ولا أي انعكاس من الواقع على الدماغ، فالانعكاس من حيث هو لم يحصل، وأمّا العين التي يُتوهم أنه يحصل بواسطتها انعكاس، فلا يحصل فيها ولا منها انعكاس، وإنّما الذي يحصل هو انكسار. فالشيء المرئي لا ترتد صورته للخارج، وإنّما يحصل بتسلطه على العين انكسار، إذ تنكسر صورة الشيء المرئي وتستقر في الداخل فيُرى الشيء، ولا يمكن أن ترتد إلى الخلف، ولا يمكن أن يحصل انعكاس منها ولا بها مطلقاً.
 

وعليه فالدماغ ليس محل الفكر، والذي يحصل هو أن الواقع المحسوس تنتقل صورة عنه إلى الدماغ بواسطة الحواس، وتكون هذه الصورة بحسب الحاسة التي نقلت الواقع. فإن كانت البصر، نقلت صورة الجسم، وإن كانت السمع نقلت صورة صوته، وإن كانت الشم نقلت صورة رائحته، وهكذا. فيرتسم الواقع كما نُقل إلى الدماغ، أي حسب الصورة التي نُقلت. وبذلك يحصل الإحساس بالواقع فقط، ولا يحصل تفكير، ويحصل تمييز غريزي فقط من حيث كونه يُشبِع أو لا يُشبِع، يؤلم أو لا يؤلم، يفرح أو لا يفرح، يلذ أو لا يلذ، ولا يحصل أكثر من ذلك، فلا يحصل تفكير.
 

فإن كانت هنالك معلومات سابقة، رُبطت بواسطة قوة الربط الموجودة في الدماغ بالواقع المحسوس الذي رُسم في الدماغ، فتحصل بذلك العملية التفكيرية، وينتج إدراكه الشيء ومعرفة ما هو. وإن لم تكن هنالك معلومات سابقة لا يمكن أن يحصل إدراك لحقيقة الشيء، بل يبقى عند حد الإحساس فقط، أو عند حد التمييز الغريزي فقط من حيث كونه يشبِع أو لا يشبِع ليس غير، ولا يحصل فكر على الإطلاق.
 

وعلى هذا فإن العملية الفكرية لا تحصل إلاّ بتحقق وجود أربعة أشياء هي: الواقع المحسوس، والحواس أو واحدة منها، والدماغ، والمعلومات السابقة. فإذا نقصت واحدة من هذه الأشياء الأربعة لا يمكن أن يحصل فكر مطلقاً، وما يحصل من محاولات التفكير مع عدم توفر الواقع المحسوس ومع عدم توفر المعلومات السابقة هو تخيلات فارغة لا وجود لها، وليست أفكاراً. والاستسلام لها بالبعد عن الواقع المحسوس، أو عن المعلومات السابقة المتصلة بها يؤدي إلى الإغراق بالأوهام والضلال، وربما أدى إلى إجهاد الدماغ فيصاب بأمراض الخلل والصرع وما شاكلها. ولذلك لا بد من وجود الواقع المحسوس ووجود المعلومات السابقة، كما لا بد من وجود الدماغ، ووجود الحواس.
 

وعليه فالفكر أو الإدراك أو العقل هو نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ مع معلومات سابقة يفسَّر بواسطتها هذا الواقع. ويقال نقْل الواقع لا نقْل صورة الواقع، لأن الذي يُنقل هو الإحساس بالواقع لا صورة كالصورة الفوتوغرافية. فهي صورة للواقع وهي الواقع إحساساً. ولذا كان القول بأنها نقل الواقع، أدق من القول بأنها نقل صورة الواقع، لأن الصورة المنقولة هي إحساس بالواقع لا صورة عنه فقط.
 

الفكر أو الإدراك هو نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ مع معلومات يفسَّر بواسطتها هذا الواقع. ويقال نقْل الواقع لا نقْل صورته، لأن الذي يُنقل هو الإحساس بالواقع لا الصورة

هذا هو تعريف الفكر، أي هذا هو الفكر أو الإدراك أو العقل. وهذه العملية تحصل للمفكر الذي ينتِج الفكر، لا لمن يُنقَل إليه الفكر. أمّا من يُنقل إليه الفكر فلا تحصل له هذه العملية، لأن الفكر نتج وانتهى، فيعطيه منتجه للناس، وينقله الناس بعضهم لبعض، ويعبّرون عنه باصطلاحات اللغة أو غيرها، وإن كان التعبير باللغة هو السائر في أنحاء العالم.
 

والفكر الذي يُنقل للشخص يُنظر فيه: فإن كان له واقع محسوس، سبق أن أحسه الشخص، أو أحسه حين نُقل إليه، أو كان لم يسبق أن أحسه، أو لم يحسه حين نُقل إليه بل تصوره في ذهنه كما نُقل إليه، وصدّقه، وصار له واقع في ذهنه كأنه أحسه وسلّم به كتسليمه بالواقع المحسوس.

فهو في كلتا هاتين الحالتين قد أدركه، فأصبح بوجود هذا الواقع له في ذهنه مفهوماً من مفاهيمه، وكان فكراً حقيقة كما لو نتج هذا الفكر عنه هو، وإن لم يوجَد لهذا الفكر واقع عند الشخص الذي نُقل إليه، بل فَهِم الجملة وفَهِم الفكر وفَهِم المراد منه.

ولكن لم يتكون له واقع في ذهنه لا حساً ولا تصديقاً وتسليماً، فهو معلومات فقط، أي مجرد معارف عن أشياء، فهو فكر باعتبار مدلولاته، ولكنه مجرد معارف عند من لم يوجَد لديه واقع في ذهنه عنه. ولذلك لا تؤثر المعلومات في الأشخاص وإنّما تؤثر المفاهيم لأنها أفكار لها واقع في ذهن من أدركها. ولذلك كان لا بد من معرفة الفكر ما هو، حتى يُعرف كيف يؤثر الفكر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.