شعار قسم مدونات

الشيخ الترابي وقراءة التراث (1)

Islamic opposition leader Hassan 'Abd Allah al-Turabi speaks to the media after attend the opening session of Sudan National Dialogue conference in Khartoum October 10, 2015. REUTERS/Mohamed Nureldin Abdallah

كثيرا ما كان الشيخ حسن الترابي يقول عندما يسرد ذكرى ثورة أكتوبر 1964، أنه عاد من فرنسا بعد أن أكمل درجة الدكتوراه هناك، وهو محمل ومعبأ بشذى التحرر وعبير الحرية الذي يفتح الشهية للتعبير والتفكير، وأنه تشرب الروح الفرنسية التي ألهمته بالتوق للثورة ضد الطغيان، فهو يعتبر مشاركته في ثورة أكتوبر كانت من دفع ودفق الروح الفرنسية الغربية المحبة للحرية!
 

ولكن ماذا عن فكره؟ هل الشيخ الترابي أصولي حقيقي ينطلق من التراث؟ أم هو نتيجة خلائط من ثقافات تشكلت في الروح الغربية التي تجلت في كتاباته النقدية والعقلانية حول الحرية في الدين، حقوق المرأة، ورفض الإيمان بالخوراق والمعجزات التي تبدو أسطورية في التراث كما فعل القس البريطاني جون روبنسون في كتابه "صادق مع الرب" Honest to God"؟
 

في الحقيقة لا يوجد هناك مفكر يستطيع أن يدعي أنه نتاج خالص لتراثه الحضاري القديم، فمهما يكن في عزلة وانقطاع من العصر ومحدداته الثقافية ومعطياته الحضارية الجديدة وثوابته الإنسانية، لا ينفك وجدانه وعقله أن يكون قد تأثر بها وتشربها حتى وإن أنكر ذلك! الإنسان هو ابن عصره مهما ارتمى في تراثه وذاته الحضارية! من ثم يقوم القارئ كما قال "رولان بارت" عالم اللسانيات في نظريته موت الكاتب، بالكتابة فوق النص الذي يقرأه وهو ما فعله الترابي في "مشروع الإسلام التجديدي".
 

الأفكار الحديثة تعبر عن احتياجات المجتمع المؤمن، ولكن يجب أن تقدم له في حلة تراثية تعبر عن ذاته الحضارية المتضخمة والتي لن يقبل بدونها الانخراط في العصر الجديد!

إن مشروع الترابي التجديدي هو في حقيقته مشروع لتحقيق ما لا يتحقق بالتراث وحده، فهو يصل المنقطع عن العصر وأسئلته وتحدياته من دفات التراث الثقافي، بآليات مبهمة وغير واضحة، ليستنطق النصوص والتراث الإسلامي عنوة وقسرا لينطق بما يتماهى وروح العصر والحداثة! فهو يدرك كيف أن الإسلام لا يحمل مشروعا للدولة، ولم يسرد وصفا مفصلا أو حتى خطوطا عريضة حول تأسيس الدولة، بل سؤال الدولة نفسه لم يكن مطروحا في النصوص التأسيسية للإسلام! فكل نص يريد الخلود المتجاوز لفضاء الزمن، يبتعد عن ملامسة الواقع ومعالجته، وكلما اقترب من الوقائع الموضوعية الثقافية كلما فقد خاصية التجريد والتمثيل اللازمني!
 

لقد جاء الإسلام ليجاوب حول أسئلة عصره وتحدياته الثقافية الماثلة، فهو نموذج لافتتاح عصر جديد، تساءل وجاوب بوضوح حول قضية التوحيد والشرك والألوهية وصفات الذات الإلهية، لكنه لم يطرح قضية الديموقراطية أو حقوق الإنسان أو الفصل بين السلطات في الدولة! لكن ما العمل بالنسبة لقائد إسلامي يريد أن يستنهض الروح المؤمنة في المجتمع ويجعلها رافعة للتحرر والحرية والبناء؟
 

كان لابد بالنسبة للترابي تزيين التراث وقراءته بصورة غير متوازنة ليستنطقه عن الحرية والعدالة والإنسان! فجاء المنهج التوحيدي للترابي ومشروع التجديد ليقول بذات المعاني الحديثة والأفكار الكبرى التي استلهمها من الغرب، ولكن بصورة جديدة وثوب جديد، فالشورى تعبر عن الديموقراطية، إلا أن روحها مؤمنة وغير مادية، والحقوق المدنية تعبر عنها نصوص مثل (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) لكن ثوبها الأصيل هو (المشيئة) وهكذا، الأفكار الحديثة تعبر عن احتياجات المجتمع المؤمن، ولكن يجب أن تقدم له في حلة تراثية تعبر عن ذاته الحضارية المتضخمة والتي لن يقبل بدونها الانخراط في العصر الجديد!
 

الأصالة أو الأصولية عند الشيخ الترابي هي ليست سوى أصولية التمظهر الثقافي للافكار الحديثة، ففي كتابه الصلاة عماد الدين الذي صدر في 1971، والذي قال عنه الأستاذ عبد الوهاب الأفندي إنه العمل الأيديولوجي الجاد في مسيرة الحركة الإسلامية، تجد الترابي يقدم فكرة أن ينتخب الناس القائد أو الحاكم كما ينتخب المصلون إمامهم ليصلي بهم، وتجده يقدم فكرة سلطة الأمة أو المجتمع للقائد كما أن المصلون يصححون الإمام في الصلاة ولهم الحق أن يستبدلوه بغيره إن شاؤوا!
 

ويحاول أن يقدم لفكرة المساواة في الحقوق والواجبات كما جاءت في فكر مينتسوي أو غيره من كتاب الحداثة، بفكرة الاصطفاف بين المأمومين في الصلاة! وهكذا يسرد الترابي تأملات لقضية شعائرية ينظر لها العقل المسلم أنها قربان لله وأنها فضاء خالص للروح، فيتمثل فيها قيما لتنظيم الحياة السياسية في الإسلام بما يتناسب مع روح العصر كما قال في إهداء الكتاب "إلى المصلين الساهين عن معنى ما يؤدونه إلا مراعاة لمجتمع رقيب أو وفاء لتقاليد أسرة صالحة أو مناصرة لمظهر عصبية دينية، وإلى الذين تركوا الصلاة وما زالت في نفوسهم جذوة من إيمان وقبس من دين لم يمرقوا من ملة الإسلام ولكنهم جهلوا حكمة تلك العبادة فلم يبالوا بها وهي أوجب الواجبات".
 

لكن أليس هذا تأصيلا جيدا وحقيقيا لقيم ديموقراطية في فهم الدولة الحديثة؟ لماذا لا يعتبر الترابي هنا أصوليا حقيقيا؟ ببساطة الترابي لا يتحرك من التراث للواقع كما أوضحت هو كغيره من المفكرين الإسلاميين يتحركون حركة معاكسة للأصالة، من حقيقة العصر وثوابته التي استقرت وأصبحت من المقبولية بمكان عند الإنسان المعاصر، للتراث تأصيلا واستنطاقا، وهنا يبدع الترابي بعقله المتأمل!
 

الديموقراطية أصلها الاعتراف بعلمانية المعرفة وثقة بالممكنات الإنسانية على معالجة الواقع والتوصل لتركيبات معرفية نظرية تفي بتحديات العصر

وغير ذلك فهذه القيم الديموقراطية ليست هي شكلها الإجرائي الذي يصوره الترابي في كتاب "الصلاة عماد الدين"، بل هي قيم نتجت من سيرورة للفكر والفسلفة الغربية ولها أسس فلسفية حول طبيعة الإنسان والمعرفة والحقيقة والوجود، وليست منتجات مستقلة بذاتها يمكن للترابي أن يأخذها ويجعل التراث الإسلامي ينطق بها عنوة!
 

فالديموقراطية أصلها الاعتراف بعلمانية المعرفة وثقة بالممكنات الإنسانية على معالجة الواقع والتوصل لتركيبات معرفية نظرية تفي بتحديات العصر. وأن طريق المعرفة في أصله بشري نسبي وزماني، وليس عبر مداد إلهي غيبي ما ورائي. وأن الإنسان هو مشكلة الوجود وليس الله، وبالتالي رغبته وإرادته ووعيه هي المرجع الاصيل في المجتمع وليس الله. هنا نجد أن الديموقراطية لها أساس فلسفي علماني secular وهي أكثر من مجرد إجراءات أو قضايا صغيرة كما يشير إليها الترابي في تأملاته حول الصلاة في الإسلام!
 

المشروع التجديدي عند الترابي يقف عند الشكل الإجرائي للحداثة ويقول بها ضمنيا وبصورة متخفية مثل الحداثي (modern) الذي يدخل حفلة تنكرية للتراث بزي تراثي، ولكنه لا يعي في طرحه بالأساس الفلسفي الذي تولدت وانبثقت منه هذه الأفكار الحديثة للوجود! وتكمن الخطوة المبدعة عند الترابي هي المماهاة بين أشكال إجرائية حديثة ومناطق ملتبسة أو مفتوحة للتأويل في التراث تسمح بأن يقول بها من داخله، فيحفظ الشكل الإيماني لمشروعه، بعد أن يفرغه من قيمته وتمثلاته القديمة. هذا هو التجديد عند الترابي، تجديد شكل التراث بما تناسب مع العصر! شكله فقط !
 

سأتناول في الجزء القادم من هذه المدونة، قضية المرأة عند الشيخ المرحوم حسن الترابي، لأهميتها وحيزها الواسع الذي أخذته في كتاباته ومشروعه التجديدي الاجتماعي، ولرمزية القضية في الوعي الثقافي كبوصلة ومؤشر لعلاقة المفكر بتراثه وذاته وهويته!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.