شعار قسم مدونات

أسطورة العقل الباطن

BLOGS - HUMANITY
لكل عصر أساطيره التي تشغل الناس وتشكل مخيّلتهم وسلوكهم، ولعصرنا أسطورة ساحرة انجذب إليها الحالمون بالنجاح والتغيير والتفوق، ألا وهي أسطورة العقل الباطن والتنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية، التي أهدرت في سبيلها الأموال والأوقات من أجل تعليمها وتعلمها دون أن تنتج نجاحا ولا تفوقا، ولا تغييرا جماعيا ملحوظا.

إنّ الملاحظ من خلال استقراء واقع القائمين على دورات التنمية البشرية، تهويلهم لنجاحاتها ومبالغتهم في رفع أسعارها واستقطاب الأثرياء في محاولة لتحويلهم إلى كائنات متعالية عن الآخرين. غير أنّ النتيجة في كل الأحوال لم تتجاوز إنتاج كيانات معقدة تطارد النجاح فلا تطاله ويستغرقها هاجس التفوق فترسب في نظريات موهومة لا تملك بعد سندا علميا يبرهن عليها ولا إحصائيات تدعم نسبة تواترها ونجاعتها.

إنّ الفراغ الروحي الحاصل في النفوس سواء في العالم الغربي أو العربي، والبحث عن روحانيات جديدة تحقق فاعليتها مباشرة، وماديا بدرجة أولى جنّح بكثيرين إلى تصديق الوهم وتقبّل هذه الأسطورة التي ابتدعها من يبحث عن روحانيات جامعة خارج الأديان مستلهما مبادئ بوذية وسحرية تسلب الوجدان والعقول، ولا تؤسس لفعل واقعي عقلاني حقيقي.

تراثنا النفسي والفلسفي والروحي، كفيل بتحديد بوصلة النجاح في سياق تكامل الفرد والجماعة، وتفاعل الباطن والخارج والروح والجسد، بعيدا عن الاغتراب والوهم وتغذية عقدة العجز والإعجاز.

ولعل جمالية الوهم في استفراغ الجهد من أجل تشغيل العقل الباطن المعطل، الذي تحوّل إلى محرك باطني يمكن برمجته بشكل آلي لينتج نجاحات فائقة تحصل بها الثروات وأعلى المراتب وأفضل المكاسب. والخطير في هذا الوهم أن يتحول الفرد إلى الفردانية العالية، والأنانية الفائقة، إذ تغريه فكرة القيادة وجاذبية النجاح وسحر الثروة، فينظر إلى الآخرين باعتبارهم كائنات مغفلة وعاجزة، وقابلة للاتباع والتسيير والاستغلال، ومصدرا للربح والاستثمار لعطالة عقلهم الباطن واشتغالهم في حدود التفكير المنطقي والعقلاني الواقعي.

إنّ تراجع جاذبية هذه الأسطورة اليوم لدليل على فشل نجاعتها وفاعليتها، في ظل الإخفاقات التي انتهى إليها مريدوها حيث ظلوا على حافة الحلم والوهم، وإن حققوا نجاحات نسبية فلأنفسهم دون قدرة على تمرير أسرار التجربة والتحفيز إلى غيرهم عمليا. كما تأكد الكثيرون أنّ الدين هو العاصم من الوهم والفشل، والتواكل باستنفار كل الحواس والقدرات الباطنية والخارجية، لبلوغ مرتبة الكدح الإلهي والسمو الروحي، والتأمل العقلي دون قراءة مثنوية تغلب الباطن على الظاهر أو تكتفي ببعد دون آخر، باعتبار الرؤية الدينية المتكاملة والجامعة بين الروحي والمادي، ومستويات النفس المتعددة اللوامة والأمّارة بالسوء، والمطمئنة والمراوحة بين النفس الشهوانية والنفس الغضبية والنفس العاقلة، وفق رؤية تكاملية لا صدامية.

فتراثنا النفسي والفلسفي والروحي، كفيل بتحديد بوصلة النجاح في سياق تكامل الفرد والجماعة، وتفاعل الباطن والخارج والروح والجسد، بعيدا عن الاغتراب والوهم وتغذية عقدة العجز والإعجاز، أي عجز الذات عن التفوق دون تشغيل العقل الباطن والبرمجة العصبية وتحقيق المعجزة بمجرد تشغيل هذه البرمجة. فتحويل الإنسان إلى كيان مبرمج، واختزاله في النجاح المادي والتفوق الاجتماعي قد أغرق الكثير من الدعاة والمصلحين في أوهام هذه الأسطورة، وأوقعهم في حبائلها وورّطهم في شباكها، فتحولوا إلى نسخ متطابقة تكتفي بالإسقاط التاريخي والتوظيفي التراثي لبعض المشاهد والوقائع، فحولت العمل الدعوي والمشروع الإصلاحي إلى مصدر للثراء والظهور الإعلامي على نحو ما سماه باتريك هاييني ب"إسلام السوق".

فهل انتهت أسطورة العقل الباطن والبرمجة اللغوية العصبية، أم مازالت تستكمل دورة إيقاع المريدين الجدد الباحثين عن أوهام النجاح والثروة والتفوق خارج دائرة الفعل والعمل والتواضع والمشاركة الجماعية والمجتمعية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.