شعار قسم مدونات

أسترال.. رحلة مع قوارب الموت

Lifejackets are seen inside a wrecked boat used by refugees and migrants to cross part of the Aegean Sea from Turkey to Greece at a garbage dump site of thousands of lifejackets, near the town of Mithymna (also known as Molyvos) on the island of Lesbos, Greece, October 5, 2016. REUTERS/Alkis Konstantinidis
نظرات تنقل كل مفردات الضياع، صمت يصرخ بكل آهات الألم، إشارات تدعو الآلهة وتستحضر القداسة، لم أر في حياتي قط مناظر تجمع بين اليأس المتمكن والأمل المنير في موقف واحد، مثل تلك المناظر التي شاهدتها في التغطية الموثقة لعمل يخت أسترال، أثناء محاولات إنقاذ اللاجئين المغامرين في البحر المتوسط، قصد أرض الخلاص أوروبا.
 

نقل اللاجئون الكثير من ثواني الخوف والقهر والموت التي واجهتهم في مسيرهم إلى غايتهم، ولكنهم عجزوا جميعا أن يطبعوا على وجوههم قسمات النصر.

أسترال هو فكرة متطوعين إسبان، وتنازل رجل أعمال ثري إيطالي، مقيم في إسبانيا، يقول في الوثائقي أنه كان يخرج بقاربه الذي اشتراه بمئات آلاف الدولارات للتنزه في مياه البحر المتوسط، حتى تلك اللحظة التي شاهد فيها ما يحدث للاجئين من مآسي في نفس البحر، فقرر فجأة أن يركن القارب وأن يتوقف عن الإبحار الترفيهي، في ذات المياه التي تحصد أرواح المئات يوميا. تنازل الإيطالي عن قاربه لمتطوعين إسبان مختصين في الإنقاذ، وتم نقل القارب إلى منطقة عبور اللاجئين في المجال البحري المحصور بين ليبيا إيطاليا واليونان، حيث شرع المتطوعون في عمليات الإنقاذ.
 
كانت القوارب المطاطية تتوالى تباعا لبعضها، يحمل المئات من الأعداد أولئك البشر الذين ينقلون على صفحات الجرائد و نشرات الأخبار كأرقام مبسطة تصف غرقى أو جرحى أو مسجونين بعد الإنقاذ. كان الموت يطوف فوق المكان، ينتظر غريقا يتخطف روحه، كان التوتر يخيم على ذلك الجزء من البحر الواسع، حتى تحسه ضيقا لا يسع من فوقه. عبثا حاول المتطوع الإسباني أن يشرح لجموع الأفارقة الممتطية لكل جزء شاغر في القارب أن عليهم لزوم أماكنهم، واجتناب التزاحم حتى لا يغرق المركب، وأن كل من في القارب سوف يتم إنقاذه، كان الأمل في النجاة أقوى من صوت العقل، وحب الذات أصلب من حدس التروي، فتزعزع القارب المطاطي، وبدأت الناس تترامى في الماء دون سابق معرفة بالسباحة، كان الرجل الإفريقي المفتول العضلات يغطس ويخرج وكأنه قشة تتلاعب بها الرياح، كان الصراخ مدويا ومخيفا، وكان الإنقاذ يتم تحت معزوفة الغرق المحتوم.
 
تتابع إنقاذ الناس من كل جنس ولون، أفارقة سود من غرب القارة ووسطها، عرب من اليمن، صوماليون، سوريون، دخلاء من جهات أخرى، كانوا مختلفين في كل شيء إلا في تلك النظرة البائسة التي كانت تعلو محياهم. كل واحد منهم ينقل في داخله آلاف التفاصيل القاتلة من رحلته نحو الأمل، بعضهم قضى عاما ونصف يشق الصحراء ويواجه الأخطار، كي يركب قارب الفردوس، نقلوا الكثير من ثواني الخوف والقهر والموت التي واجهتهم في مسيرهم إلى غايتهم، ولكنهم عجزوا جميعا أن يطبعوا على وجوههم قسمات النصر.
 

أراد وثائقي أسترال نقل مدى الانحدار الذي وصلت له البشرية، وغياب الأفق المبشر بغد أفضل لفصيلة الإنسان.

سأل أحد الصحفيين متطوعا عن مصير الذين تم إنقاذهم، فرد أنهم سوف ينقلون إلى سجون الانتظار، وأنهم سوف يعاملون كمجرمين، كان التساؤل يخيم حول جدوى إنقاذ هؤلاء، تنقذ أجسامهم من الغرق ولكن ماذا عن أرواحهم؟ ماذا عن رغبتهم التي طمست في الطريق؟ ماذا عن أحلامهم التي سوف تقبر في سجون الانتظار؟ كان على قارب أسترال وطاقمه أن يبحث عن سبب مقنع يتحجج به ويبرر به عمله الإنساني المميز، سبب يجعل من إنقاذه لخمسة عشر ألف لاجئ في ظرف أربعة أشهر عملا بطوليا خالدا، لكن حضرت الأسئلة وغابت الأجوبة، وتجلت كل معاني الضياع والتيه في وجه ذلك الشاب اليافع الإفريقي، حينما أراه الصحفي الإسباني خريطة البحر المتوسط، وسأله عن مكانهم في البحر، أشار المغامر السعيد إلى شاطئ اليونان، ولكنه شرد في الأسى حينما وضع الصحفي أصبعه على بعد بضع ملمترات من ساحل ليبيا.
 
كان الوثائقي يسرد تفاصيل عمل يخت فخم، وطاقم إنقاذ نبيل، من أجل نجدة مئات الأرواح، ولكن ذلك كان الجزء الفني ففط؛ لأن ما أراد وثائقي أسترال نقله هو مدى الانحدار الذي وصلت له البشرية، وغياب الأفق المبشر بغد أفضل لفصيلة الإنسان. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.