شعار قسم مدونات

لِما خُلق له

blogs - mos
إذا أمسكت بسمكة وأخرجتها من الماء، ثم طلبت منها أن تحلق في الفضاء الرحب، فهل ستستجيب؟ وفي المقابل اصطدت عصفورا جميلا وقذفته في النهر لكي يسبح فيه ويكمل حياته بشكل طبيعي، فهل يستطيع؟ أعتقد أن إجابتك ستكون بالطبع لا، لا يمكن للسمكة أن تعيش بغير الماء، ولا يمكن للعصفور أن يكف عن الطيران، فأنت بذلك ترتكب جرماً فظيعاً بما تفعله، فقد حكمت على كليهما بالموت.
 
أصبحنا نوزع المناصب الكبيرة لأقرب شخص لنا حتى وإن كان لا يفقه شيئًا في عمله، وشعارنا دائمًا الأقربون أولى بالمعروف.

وأنا اقول لك أن هذا حتما ينطبق علينا نحن البشر، فعندما تضع شخصاً في موقع لم يُخلق له، فإنك لم تحكم عليه وحده بالموت، بل حكمت على أمة بأكملها بالموت البطيء. سمٌ بطيء يقتل هذه الأمة شيئاً فشيئاً لكننا نراه عسلاً صافياً، ولا نعي مدى خطورة سم نراه شفاء لكل من فقد عقله وقرر أن يتبع بوصلة قلبه وأن يضع الرجل المناسب في المكان المناسب. لم نفهم شيئاً، ما هو هذا السم لكي نتفاداه؟ ببساطة إنه سم أفكاركم الجاهلية، فنحن نعيش في أمة تضع النجاح والإبداع في قالب محدد، وأي شخص لا يعجبه هذا القالب فإنه سيوصم حتماً بالفشل الذريع، والأخطر من هذا اختلال معايير النجاح لدينا، إذ أن زمام القيادة والمناصب المهمة توزع في الوطن العربي حسب رابطة الدم والقرابة. هذه الفكرة هي من أحد الأسباب التي جعلتنا في ذيل الأمم، وأرجعتنا إلى عصر الجاهلية، لكنها جاهلية حديثة مغلفةٌ بأغلفة القرن الواحد والعشرين.

لكن طبيبنا في هذه الحالة هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فشفاؤنا الوحيد أن نسقط أفعاله عليه الصلاة والسلام على واقعنا وأمتنا، وأن نرجع إليه حق الرجوع. لم يخسر حرباً لا في جاهلية ولا في إسلام، إنه خالد رضي الله عنه، خالد الذي عينه الرسول قائداً فور إسلامه بعد عشرين عاماً من معاداة الإسلام والمسلمين، أصبح قائداً وأميراً على من أسلموا قبله، وبالمناسبة الصحابة الذين كانوا في جيوش خالد يعلمون علم اليقين أنه لا يحفظ إلا قصار السور، والرسول يعلم، لكنه يعلم أيضا أنه ليس عيباً في خالد فإذا كان بعض الصحابه قد تفوقوا في القرآن، فإن خالد سيف سله الله على المشركين.

وهناك في المدينة صحابي آخر تجري في عروقه حب اللغة العربية والشعر والبلاغة ويتقنهما أشد الاتقان، فما كان من الرسول إلا أن يكون أول المشجعين له على موهبته واستثمارها في رفعة الأمة ومنحه لقب شاعر الإسلام، نعم إنه حسان بن ثابت الذي كان دفاعه عن الإسلام بلسانه وكان رضي الله عنه قليل الخروج للجهاد، ولم يذمه الرسول قط؛ لأنه كان يعلم أنه كثير الجهاد بلسانه ويتقن ما لا غيره يتقنه لذلك كان الرسول عليه السلام أول من وقف في صفه.

هنالك في السيرة أمثلة كثيرة لو جلست أعددها ما جلس نوح عليه السلام في قومه ما أحصيتها، لكن السؤال الأهم والأعمق، أو بالأحرى تخيل معي ماذا كان سيحدث لو أن الرسول عليه السلام طلب من خالد بعد إسلامه أن يتعلم القرآن وعلوم الحديث وجميع ما فاته خلال العشرين سنة الماضية ثم أخرجه للجهاد؟ ماذا لو عيّن الرسول عليه السلام حسان بن ثابت مكان خالد بن الوليد في المعارك؟ ستقول لي لا يمكن تصور ذلك. وأنا أقول أن مجرى التاريخ كله كان سيتغير، وربما لم يكن الإسلام ليصل إلينا لو لم يعي عليه الصلاة والسلام أهمية الإيمان بكوننا مختلفين، وكل منا مبدع في جانب من جوانب الحياة. وأضف إلى معلوماتك أيضاً أن أبا ذر رضي الله عنه جاء يطلب الولاية من الرسول لكنه اعتذر منه وقال: "يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة". بكل بساطة دون أي مجاملات إنك لا تصلح لها ومكانك ليس هنا، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يستطيع المجاملة على حساب الأمة، رغم أن أبا ذر كان من أحب الصحابة للرسول الكريم لكن المحبة شيء ومصلحة الأمة شيء اخر.

المناصب لا تُورّث ولا تُعطى إلا لمن يستحق، لأن هذه هي سنة الله في الكون لإعمار الكون.

إنه أمر لا يخضع لأي عواطف أو مجاملات ولا يمكن ايضاً أن تجتمع مصلحة الأمة مع توزيع الأدوار فيها حسب القرابة ورابطة الدم، وهذا المعيار هو الذي فعل بنا الأفاعيل وأرجعنا إلى ما قبل الجاهلية، فأصبحنا نوزع المناصب الكبيرة لأقرب شخص لنا حتى لو كان لا يفقه شيئا في عمله، وشعارنا دائماً الأقربون أولى بالمعروف. ومع استمرار هذا الشعار فإننا لن نتقدم خطوة واحدة للأمام بل سنبقى نندثر أكثر فأكثر إلى أن نصبح مجرد أمة تُذكر فقط في كتب التاريخ.
 

أعتقد أنه بات من الواضح أن مكان كل فرد في المجتمع يتحدد من خلال أمرين مهمين، ألا وهما موهبة هذا الفرد وإبداعه، وقوة الشخصية والقدرة على تحمل تبعات هذا المنصب. هذه المعايير هي التي يجب أن تسحق المعايير التي وضعناها من رابطة الدم والقرابة، والتي كانت السبب الرئيس في تدهور حالنا وتصنيفنا في قائمة أكثر الأمم جهلاً لأننا وضعنا الرجل غير المناسب في المكان الذي لم ولن يتناسب معه أبداً.

 
لكن لابد أن يستلم العقل منصب القضاء لكي يحول مقولة الأقربون أولى بالمعروف إلى المبدعون والقادرون هم أهل المعروف، حتى إن لم يكونوا من آل البيت. ولكي نعود إلى عصر النبوة والازدهار ونكون حقاً خير أمة أخرجت للناس، علينا أن نحدد الموقع الصحيح لكل فرد منا دون التقليل من موهبة أو مقدرة أي فرد منا، ودون استعمال العواطف المُهلِكة في أماكن يجب فيها سَحق العاطفة وسيادة العقل، فالمناصب لا تُوّرَث ولا تُعطى إلا لمن يستحق، لأن هذه هي سنة الله في الكون لإعمار الكون، ولكي يَتَيسرَ حال الأمة ويتغير مجرى التاريخ للأفضل، علينا دوما أن نعي قانون الله في الأرض، علينا حقا أن ندرك أن كلٌ مُيَسرٌ لِما خُلِقَ لَه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.