شعار قسم مدونات

لاجئة رحم (2)

blogs - refugee

وصلنا إلى المستشفى، حملت الطفلة التي كان التعب قد تغلّب عليها فغطت في نومٍ عميق رغم الضوضاء التي كانت حولها، بينما تكفل رجل الأمن بالتواصل مع الإسعاف وطلب كرسي متحرك للأم الحامل.
 

كان في انتظارنا رجل أمن آخر، يعمل في وزارة المغتربين دائرة الهجرة اللجوء اللاإنساني، أخبروه أنني المترجمة والطبيبة المرافقة للمرأة الحامل وطفلتها. كان معنا أيضاً مرضى يحتاجون لغسيل الكلى، وآخرون وجهتهم قسم الأشعة.
 

ارتسمت على شفتاي البسمة، وغمرت عيناي الدمعة بنفس الوقت، وجدتني ضممت الأم بفرح وقلتُ لها "بنوتة، معك بنوتة"!

بدا لي رجل الأمن شاباً في الثلاثين من عمره، كان لطيفاً ومحترما حيث طلَب أن يحمل الطفلة عنّي بيد أني رفضت وفضّلت أن تبقى طفلة بلدي في حضني رغم أن حملها كان مربكاً مع معطفي الشتوي الأبيض وحذائي العالي.

لا أدري لمَ رفضت رغم إصراره! وكأنها شيء يخصني أنا لا أريد أن أثقل حملَه على أحد! أو ربما خجلاً منه لأن ملابسها كانت متسخة من طول السفر والترحال.
 

عند الانتظار في قسم النساء والتوليد! كُسرَ الصمت..
-من أين حضرتكٍ؟
-من سوريا !
– حقاً لم يبد لي ذلك! علمت أنك طبيبة، منذ متى وأنتِ هنا؟
– منذ أشهر 🙂
– وتتحدثين لغتنا بهذه الجودة! رائع!
(اجتاحتني ابتسامة الثقة والخجل بنفس الوقت التي تنتابني كلما علّق أحدهم على لغتي)
– ممم، اضطررت أن أتعلمها في المعهد مذ وصولي كي أتابع دراستي وأتواصل مع الناس.
-أعتذر لتطفلي، لكن كيف وصلتي إلى هنا؟ عن طريق منظمات الاجئين؟
– لا، لستُ لاجئة هنا. دخلت لوحدي عبر المطار بتأشيرة "شنغن)..
قطعت حديثنا شهقة الطفلة وقد كادت تختنق من بلغمها، بدا لي أن احتقانها مزمن. عرض عليّ الشاب مرّة أخرى أن يحملها عنّي وأصرّ على ذلك. تدّبرت أمرها وأعطيتها له.
 

مرَّ وقت كافٍ بين فحص الأم وفتح ملفها، فاستيقظت الطفلة لتجد نفسها بين أيادي غرباء. بدت عيناها خائفتان هاربة من جميع الوجوه تبحث عن عيني والدتها الغائبة، فاستسلمت للبكاء.
 

ما كان بوسعي حينها سوى أن أتناسى شخصيتي الحالية وأظهر الطفلة التي بداخلي. استعنت بالقفازات الطبية وصنعت بها دُمى رسمت لها وجوهاً وأشكالاً وبدأت أعمل كمهرج في صالة الانتظار! هنا ظهرت خبرتي في هذا المجال كطبيبة أسنان، ما إن بدأت أحدثها "باللهجة السورية" حتى هدأت وبدأت تسألني وتحدّثني وكأنها وجدت من يشبهها.
 

قاطعتنا المندوبة عن هذه العائلة وبأيديها ملفاتهم، وقد أحضرت معها هدية وقطع من الحلوى للطفلة. أخبرتني أنهم أحضروا الأب المشلول نصفياً بسبب الحرب والطفلين الآخرين من المطار وها هم ينتظرون أمام المشفى حتى يصطحبوهم إلى منزلهم.
 

في هذه الأثناء طلبوني للذهاب إلى غرفة المعاينة، أخبرتني الطبيبة عن وضع الأم والجنين الصحيّ وأنهم علموا جنس المولود، وهي تشرح لي ذلك عبر صورة "الإيكو"، بيد أن ذهني رسم صورةَ أخرى!

ارتسمت على شفتاي البسمة، وغمرت عيناي الدمعة بنفس الوقت، وجدتني ضممت الأم بفرح وقلتُ لها "بنوتة، معك بنوتة"! أتتمنا الإجراءات، تبادلنا أرقام الهواتف وانطلق كل منا ليومه.

الساعة الآن الثانية عشر ظهراً، في طريقي لمؤتمر "النساء الحكيمات" السنوي. ثلاثة أيام تجتمع فيهن سيدات أعمال ونساء ناشطات في حقوق المرأة ومهتمات في تطوير أنفسهن ومشاريعهن الشخصية. كان عليّ أن أضغط زر التوقيف لشريط الصور التي مازالت تٌعرض في ذهني، وأوقف الوجع الذي كاد يخنقني كي لا يتمكن منّي فضلاً عن الإرهاق الجسدي الذي كنت فيه. لجئت لقناع "اللاشيء" تنفّست الصعداء، رسمت بسمتي ودخلت!
 

كان دخولي ملفتاً للنظر فضلاً عن أنني دخلت ضمن المحاضرة الأخيرة في الفترة الصباحية، فقد كنت الوحيدة الغريبة بينهن "محجبة"!
 

في الحقيقة استعدت شيء من حيويتي عندما دخلت فهذه الاجتماعات واللقاءات تستهويني جداً لذلك لم يمنعني الإرهاق من المشاركة والتعليق. ما إن انتهينا حتى جاء أحدهم وأخبرني أنهم من قناة تلفزيونية تريد أن تدير معي لقاء تلفزيوني عن المؤتمر ودور المرأة في المجتمع وخصوصاً في مجتمعاتنا الشرقية. رحبت بهم ثم استأذنت أن يمهلوني بضع دقائق.
 

في دورة المياه خلعت القناع الذي كنت قد ارتديته أمام الفندق قبل أن يخنقني! لم يعد بطاقتي التمثيل أكثر. عن أية امرأة في مجتمعنا أتحدث؟ عن اللاجئة الأم التي عبرت القارات لتصل لبرّ الأمان بأطفالها، أم عن اللاجئة الطفلة التي لم تستطع أن تفهم لم يحدث كل هذا حولها، أم عن لاجئة الرّحم التي لم ترَ ولم تنعم بنسمة من هواء الوطن!

الألم والقهر اللذان كنت قد أغفيتهما مؤخراً كي أستطيع متابعة حياتي بشكل طبيعي استفاقا وبدأ يأكلان جسدي مجدداً، الأصوات الماضي المسجّل بتفاصيله وأصوات الحاضر الغريب تتصارع في أذنيّ. نظرت لداخل روحي، ليس في حوزتي طاقة كي أركب جملة واحدة مفيدة. كيف سأوصل للعالم فكرة الانفصام في العوالم التي أعيشها اللحظة!
 

نعم أستطيع أن أرتدي قناعي شكلياً لكنني لا أستطيع التمثيل، والكذب في مشاعري وكلامي!

بين المرأة التي تضع روحها على راحتيها وتعبر حاجز القنّاص كي توصل القليل من مواد الإسعافات الأولية لتنقذ حياة أحدهم في الغوطة وبين المرأة التي لا يمكن أن تتخلى عن ساعة المشي جانب البحر مهما كان السبب! عن الأم التي همّها الوحيد ليلاً التفكير بطريقة تؤمن فيها الطعام لأطفالها في اليوم التالي وبين الأم التي تطالب بفرض إجازة "أبوبة" مدفوعة الراتب للموظف الذي يرزق بطفل كي يساعد شريكته في رعاية الطفل!
 

هل حقاً عليّ ان أخبرهم بذلك؟ وأتحدث عما تحتاجه المرأة اليوم في وطني أم أن عليّ أن أوزّع ابتسامات على الشاشة وأنطق كلاماً في الهواء هراءً وافتراء؟ تباً لهذا التناقض!
 

نعم أستطيع أن أرتدي قناعي شكلياً، لكنني لا أستطيع التمثيل، والكذب في مشاعري وكلامي! نظرتُ إلى عينيّ في المرآة، كم أنا قوية لأني لم أسمح لنفسي بالبكاء حتى الآن! أعدت ترتيب مظهري، تركت القناع خلفي وخرجت!
 

عدت إلى المسؤولة ابتسمت في وجها: اعذريني سيدتي لا أشعر أنني بحالة جيدة لأن أجيب عن أية أسئلة، أرجو أن تتفهموني فأنا متعبة حقاُ. اعتذَرت عن إزعاجي وقالت كما تريدين سيدتي، بالتأكيد نتفهم ذلك، لكن وددنا فقط أن نسمع رأي حضرتك كامرأة عربية تعيش في أوروبا، أتمنى ذلك في فرصة أخرى.
 

لم يكن يوماً غريباً عن كثير من الأيام التي عشتها، لكنه أضيف إلى الأيام التي تمرّ كسنة. كنتُ قوية فيه بالقدر الكافي الذي صبرت على خنقة عبرتي وأخرَست فيه وجعي حتى وصلت إلى غرفتي وأغلقت الباب على نفسي! فما أصعب أن تعيش وتتعايش مع التناقض الداخلي والخارجي!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.