شعار قسم مدونات

فليمدد بسبٍ إلى السماء

Windmills stand in line on the horizon under a dramatically illuminated cloudy sky during daybreak near Pamplona, northern Spain, early 16 October 2016 morning.
أيهما أكبر يا صديقي؟ قلبُك الصغير، أم أحزان عمركَ التترى؟ أيهما سيحوزُ الآخرَ بين جوانبه؟ هل سيفيض قلبُك بالحزنِ يومًا، أم أن هناك دومًا متسعٌ لأحزانٍ أخرى؟ وُلدتَ لتشقى يا صديقي، ليُثقل قلبُك بالأعباء قبل أن يُثقلَ بها كتفاك، وُلدتَ باكيًا، وباكيًا ستظل، وويلٌ لك إن انقطع عنك سبيلُ البكاء. تتلاطم أمواج الدهر في ظلمة اليأس، وأنت بينها تحاول النجاة بقوة ساعديك، ولا تكاد ثنايا صدرِك تسمعُ لخفقانِ قلبك صوتًا.

ابكِ وانتحب إن شئت، وكأن لك في ذلك مشيئة. ولكن تذكر أن هناك مَن قدرته جلت عن كل خاطر، لا يعزّ عليه رفع ألمك، يكترث لك على الدوام ويرعاك في كل حين.

لله ما أضعفَك! تخور قواك وتنهدُّ عافيتُك بكلمة، كلمةٌ مفردة هي كلُ ما يلزم لينهارعزمُ قلبك، ويكتنفك الحزنُ بردائه، والحزن في الواقع ليس شيئًا سيئًا إن طلبتَ رأيي، وأنت هناك في ركنٍ بعيدٍ من البيت تبكي خُفيةً عن العيون، تشعرُ أن الحزنَ كيانٌ يواسيك، يربت على كتفيك، يدفعك للبكاء لتتساقط أوجاعُك مع قطرات دمعك، تشعر به يحتضن قلبَك ليُهدئ من روْعه، يدفع عنك الخوف، يمنعه من أن يتملكك، والخوف يا صديقي لم يكن يومًا جيدًا لقلبك.

الخوفُ يلهو بك كطريدةٍ بين يدي ذئب، يرفعك إلى أعالي السماء ثم يهوي بك على السفوح بين الصخور، الخوف يا صديقي قد يصلُ بكَ إلى أن ترى في عنقكَ المتدلي من حبلٍ في سقف غرفتك عينُ الحياةِ ومبلغُ الراحة، قد يجعل قلبك يختنق عوضًا عن حُنجرتك إن فضلتَ العيش به، يصعقك بالموت مع كل نبضةٍ يدق بها قلبك.. الخوفُ يا صديقي هو الموت الأكبر.

يرميك إلى اليأسِ فريسةً لا عزمَ لها، يُسلط عليك عقلَك ليقنعك بانقطاع الفائدة وانعدام الأمل، وهو حقًا بارعٌ في هذا، يعالج وقائعَ حياتك وأحداثها بنظرةٍ مادية ٍ بحتة، يواجهك بكيانك الضئيل أمام عظائم أوجاعك ومشاكلك، يهمس في أذنيك بتميمة اليأس: انظر! ما أنت في مواجهة الحياة! لستَ إلا غزالًا اجتمعت عليه وحوشُ الغابة جميعُها، وما زال يركض يُمنّي نفسَه بالبقاء!

في الواقع لم يكْذِبك، أنت حقًا أيلٌ صغير تطلبه وحوش البرية، ليست قوته إلى كل تلك القوى بشيء. ولكن، تُراكَ نسيتَ النورَ حين طالت على عينيكَ الظلمة، فأيقنت بسرمدية غيابه! متناسيًا أن الشمسَ تقبع في مكمنها تنتظر ميقاتها المقدر؛ لتمحو عن الأرض وجهَ الظلام، نسيتَ أن دوام الحال من المحال، وأن وجهك الذي تنقبض ملامحه بالحزن اليوم، كان يُنير فرحًا بالأمس.

نعم نحن أمام ملمات الحياة وعوائق الدنيا لا شيء، قوتنا مجتمعين لا تعدو كونها ذرةَ غبارٍ يتناقلها النسيم. ولكن بالله أنت كلُ شيء، ساعدك أقوى من أن تهزمه صخور الجبال، قدماك أقوى من أن تذل بك في منتصف الطريق، قلبك أقوى من أن يُسَلِّم لصعقات الخوف. أنت كل شيءٍ إن آمنتَ بصديقِك الذي افترقت عنه بالأمس، صديقُك الذي لم يتخلَ عنك يومًا وتخليتَ عنه أنت حين ثقُلت عليك المصائب، وطرحتَه جانبًا حين توالت عليك العقبات، ورحت تنكر وجوده بالأساس وتظن أنه موجودٌ فقط في خيالات المساكين.

الأمل.. الأمل الذي لا ينقطع لسبب؛ لأنه مقترنٌ بوجود الله سبحانه، والله يا صديقي دائمًا موجود، يُكفكف دموع الباكين في جوف الليل، يمسح على رؤوس اليتامى ويربط على قلوب الخائفين، يبعث فيك الأمل وإن كان الأمل في بعض الأحيان محض جنون. تألم يا صديقي أنت بشر، ابكِ وانتحب إن شئت، وكأن لك في ذلك مشيئة. ولكن تذكر أن هناك مَن قدرتُه جلت عن كل خاطر، لا يعز عليه رفعُ ألمك، يكترث لك على الدوام ويرعاك في كل حين.

الإيمان وحده قد يدفعك إلى الحياة بما يجلبه على قلبك من الأمل، لأنك بفقدانك إياه قد اخترت أن تعيش ميتًا، وإن ظلت أنفاسك تعكر الأجواء.

ثمانية عشر عامًا من المرض والفقر لم تبعث في قلب أيوب إلا الأمل فنادى ((وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)) – سورة الأنبياء
ونادى زكريا وهو الشيخ الكبير وزوجته قد انقطعت بها أسباب الحمل ((وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا)) – سورة مريم
ونادى يونس في بطن الحوت في ظلمة الليل فوق ظلمة البحر ((فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) – سورة الأنبياء

ليس في أيٍ من تلك الحالات فُسحةٌ لبعض الأمل إن تسيد العقل في الحكم عليها، وتُركت المادة وحدها تتحكم في مآلات تلك الظروف وما تنتهي إليه، لأن قانون المادة لا يعترف إلا بالمحسوس، ولا يُقدر إلا قوة الإنسان المجردة عن أي عون. ولكن رحابة الإيمان أكبر من محدودات المادة، والإيمان وحده قد يدفعك إلى الحياة بما يجلبه على قلبك من الأمل، لأنك بفقدانك إياه قد اخترت أن تعيشَ ميْتًا، وإن ظلت أنفاسُك تعكر الأجواء.

وليس بين الناس من اجتمعت عليه الآلام والمحن كرسول الله ﷺ، سُب وشُتم وأوذي في نفسه وأهله، أُدميت قدماه الشريفتان وسال الدم من وجهه الشريف، وربط حجرين على بطنه يتقي بهما الجوع، واجتمعت عليه الخطوب بجيوشها وما قابلها إلا أن رفع يديه إلى الله يدعو "إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي". الله معك على الدوام يا صديقي، فقف في وجه آلامك وأرها أنك لا تبالي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.