شعار قسم مدونات

حب ومعبر وجدار.. مازلنا على قيد الأمل

معبر رفح

"كيف حالك يمة كيف إنت، إحنا بخير يمة، إخواتك بخير، ومرتك بخير، مشتاقينلك يمة" دقت هذه الكلمات سمعي صباحا ذات يوم وأنا في طريقي للعمل، لا أعرف لم توقعت أن هذه النغمة قد توقفت بعدما كنا نسمعها في الأفلام التي تحكي لنا أحداث النكبة وتشتت العائلات، بحث بعضهم عن بعض عبر موجات الراديو بعدما فرقت بينهم موجات المذابح المتكررة مرة بعد مرة حتى تم التهجير القسري الذي أراده الاحتلال للعديد من القرى والمدن الفلسطينية وما زال.

لم تكن قصة حب كما الأفلام العربية، لا همسة ولا نظرة ولا غرام من اللحظة الأولى بل حسابات دقيقة بالعقل والمنطق

هذه المرة يتكرر السؤال ليس عبر موجات الراديو فقط، ولكن عبر الهاتف النقال أو محادثات فيسبوك أو "سكايب" أو غيرها من وسائل التواصل الاجتماعي التي ربما جعلت الحديث أسهل، لكنها زادت ألم البعد والفراق وضاعفت في الشوق حتى لم يعد له حد يحتمل.

سألتني ابنتي قبل أيام "ماما كيف اتجوزتي انتي وبابا؟"، ربما كان سؤالها عاديا في سنها وبداية بحثها عن طرق الحب ومتى سيدق عتباتها يوما -وإن كنت في مثل عمرها ما زلت أبحث عن الطرق التي ستتخلص منها سالي من تعنت الآنسة منشن- لكنها أعادتني إلى تلك اللحظة قبل عشر سنوات عندما التقى شاب من إحدى قرى الضفة المحتلة خرج لتوه من سجون الاحتلال بما يشبه الإبعاد بعدما وقع على نفسه تعهدا بعدم العودة قبل عامين، لأنه عاند الاحتلال وطلب حقه في السفر والتعلم كسائر البشر.. التقى هذا الشاب بفتاة خرجت لتوها من قطاع غزة عبر أكثر المعابر إذلالا وتعنتا في العالم، معبر رفح.

لم تكن قصة حب كما الأفلام العربية، لا همسة ولا نظرة ولا غرام من اللحظة الأولى، بل حسابات دقيقة بالعقل والمنطق، كيف سنحافظ على استمرارية هذا الزواج في أكثر الأماكن قربا وبعدا في الوقت نفسه، أقل من ساعة بالسيارة بين غزة والضفة عبر معبر إيرز لكنها أكثر من عمر بين التصاريح وإجراءات عدم الممانعة وربما نفي مؤبد إن حملت لقب "مرفوض أمنيا"، أما جمع الشمل أو تغيير محل الإقامة فمسألة فيها نظر من قبل الاحتلال، وأعوانه من ذوي القربى!

حسنا يا صغيرتي التقينا كما يلتقي شابان وضع كل منهما هدفا ورسم طريقا ثم بات يبحث عمن يشبهه في الحياة كي يكمل معه مشوارا قد يضطرا لإكماله منفردين، لم نستمع بعد اقتناع لنصائح تلك العجوز التي التقيناها يوما، فقالت لنا "من طين بلادك وحط ع خدادك" لأننا شعرنا أننا خلقنا من طينة واحدة، جمعتنا أم الدنيا وظنا أنها قد تكون لمُ شمل إن ضيق الاحتلال علينا حدود الوطن.

التقينا كما يلتقي شابان وضع كل منهما هدفا ورسم طريقا ثم بات يبحث عمن يشبهه في الحياة كي يكمل معه مشوارا قد يضطرا لإكماله منفردين

ونصب بيننا ألف حاجز وجدار، ولكن يبدو أنها ضنت على أبنائها بالقرب فكيف تسخو به على أبناء الجوار.نحن نشبه الكثير هنا يا صغيرتي، لم تعد غزة المسكينة قادرة على العطاء بعد سنوات عجاف من الحصار والتضييق، وليست الضفة في ظل التنسيق الأمني مرحبة بأسرة قلبها غزي حتى وإن كان هواها يرنوا إلى رام الله أو بيت لحم.

وهكذا عدنا كما بدأ الأولون "كيف أنت، نعم .. الأولاد بخير، كيف كان يومك.. أنا مشتاقة، ما تقلق، الأمور تمام، كيف بدك تبعت فلوس، والله خايف من قصة التحويلات بلاش تصير فيها قصة.. سكوت طويل ثم سؤال روتيني عن التصاريح، لا ليست مسموحة بعد، جرب من عندك، غير ممكن، حاولي أنت… وأكثر ما يكون إيلاما سؤال الأولاد عنك، ماما ليش ما بدك تودينا عند بابا؟!

نودِعُ الأمل في قلوبنا رويدا، نهدئ من روعنا، على الأقل نحن بخير، لسنا كبيت فلان اعتقلوا الأب وأبعدوا الأم إلى غزة وبقي الأطفال الرضع في رعاية جديهم، أو ربما أفضل من فلانة طلقت بعد خطوبة امتدت لسنوات لأنها لم تتمكن من إصدار تصريح ذهاب إلى الضفة أو حال بينهما معبر رفح ولم تتمكن من إدراج اسمها بين عشرات الآلاف من الأسماء العالقة منذ سنوات عليه، وربما وربما … باختصار، ما زلنا على أمل، المهم تكون بخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.