شعار قسم مدونات

فلنتوجّع قليلا لنشعر أننا أحياء

A boy inspects a damaged site after airstrikes on the rebel held Tariq al-Bab neighbourhood of Aleppo, Syria September 23, 2016. REUTERS/Abdalrhman Ismail

أشدّ ما أهابه ويرعبني مذ تكالبت المواجع بلا هوادة على عالمنا المهترئ، العربي بصفة خاصة، أن نعتاد بشاعة الأحمر القانيّ ويصير الموت مشهدا اعتباطيا حالما ينتهي نفرغ للحياة، ننفض غبار الأسئلة لنداري سوءات الواقع، نهرب من وجع الخاطرة لنفتح باب اللامبالاة على مصراعيه، نغطي الندبة المفتوحة على جرحين، نمرّن القلب على التغاضي ونواصل المسير في الشوارع الجانبيّة، يقرع آذاننا مدفع الموت ولا ننتبه إليه، نرى الشريط الأحمر العاجل في نشرات الأخبار ونشيح عنه، نغمض أعيننا عن صور الوجوه الواجمة، عن أطفال يخرجون من تحت أنقاض الجور، عن ساسة يتلذذون بصور الأشلاء المبتورة ويلوّحون بأياديهم الملطّخة بالخزي، يعطون شارة الانطلاقة لحرب لا هدنة فيها.
 

أخاف أن تتلاشى الآمال في غد قد يطول انتظاره، تلازمنا حمى الأوطان الشديدة الوطأة، تتوارى شموسنا خلف بروق نازفة، تجفّ أعيننا من تكرار المشهد، أخاف أن نتوقف عن المراهنة على غد موعود بالفرح، أن تفقد الحواس موطئها فتقودنا خطانا إلى منفى في أرض بلا مطر، أخاف ألا يبقى في الذاكرة مكان لتجميل الحاضر، أن نأنس لفرسان الحرب ونجنح لصليل الأسلحة، أخاف وأخاف في هذا الزمن بدل الضائع أن تترسخ حتمية الهاوية!.
 

لنتوجع حتى الهزيع الأخير من الوجع ليرتفع الصدى ويتسع، ولكي لا يتكلّس الشعور فينا إلى أن نجد وطنا لا يشيخ، وطنا لا يودّع أحدا

تملُّ الحربُ من الحربِ حين تطول
يصير الموتى أرقاما بلغة الدم
تستحيل أسباب البقاء والرحيل
يبكي الحمام بصمت
تزداد الحياة موتا
تخضرُّ على راحة القبور
تلمع الخناجر عند أول الليل
تتحنّى الأيادي بالدماء
تدمع العين الكحيلة
ويزهو الجلاد منتشيا بلحم الشهداء
 

تملّ الحرب من الحرب ولا يجب أن نملّ نحن أو نتخذ عطلة عن ذكرى الحزانى، الشهداء الذين رحلوا والذين سيرحلون، فلنعش الحرب بصدق القلب والأدب في حمأة ضجيج العالم الإعلامي والسياسي الذي يؤدي واجبه العبثيّ باقتدار، لنظل نرتطم بقلق الأسئلة: أي طريق نسلك وكيف ننهي هذه الحفلة السادية التي تتراقص فيها الوحوش البشرية على جثت المعذبين؟ كيف نغير واقعنا المدجّج بالعذابات ونحط أمتعتنا في برّ آمن؟ أي خيطٍ نرتّق به هذا القلب النازف في مساءات المرار؟ كيف نحيي الغد ونغوي الأفراح لتنضج؟ متى نفتش عن الوطن ونعثر عليه؟..
 

فلنحذف الأسود من علبة الألوان، ولو بحروف يتيمة، ولا نأبه لرحلة التيه لنصبح شبح الضحية التي تطارد جلادها، ولنؤمن بأن لا غد يبقى على حاله، لننتصر على الهزيمة ولو ببضع أسطر على هذه الأرض المهددة بالسقوط ولنعالج قذارة السياسة بسموّ الأدب.
 

فلنتوجع حتى الهزيع الأخير من الوجع ليرتفع الصدى ويتسع، ولكي لا يتكلّس الشعور فينا إلى أن نجد وطنا لا يشيخ، وطنا لا يودّع أحدا، يجهز مقاعد تكفي أبناءه، تخطئ نعوشه مواعيد أصحابها، يتلقفنا حين تلفظنا بلاد الغرباء، تكفّ مصانع النسيج عن غزل البياض، يهجع الموت قليلا، يترجّل الفرسان وتضع الحرب أوزارها، إلى أن نحقق أمنية نيرودا وبدل أن نهتم بصناعة الموت، ندرّب المروحيات على جني العسل من الشمس.
 

هذا الوطن غير الصالح للإقامة إلاّ مجازا، لكننا وبرغم طيش القلب لا نخذله كي لا تبقى الوطنية مجرد وجهة نظر

وأنتم أيها الغزاة:
اخرجوا من ليالينا الحزينةْ
من أخشاب النعوشِ
من مراثينا
من قصائدنا اليتيمةِ
من جرح المدينةْ
خذوا بنادقكم وارحلوا
اتركوا لنا صحن الدار وملح الأرض
حاكورة الضيعة وطعم الوطن
حدود الشام والسنبلة
 

الوجع صحيّ لتظل ضمائرنا على قيد الحياة، لئلا تبقى القيم الإنسانية الخالدة مجرد شعار لا نؤمن به، لئلا ننسى تاريخنا الماضي والحاضر..
 

فلنتوجع قليلا قبل أن نودع ليلتنا الأخيرة لأجل هذا الوطن العاقر الذي يدمينا ونعبده، يُهجِّرنا ونعود إليه، تلفظنا شطآنه ونشهر أشرعتنا تجاهه، هذا الوطن غير الصالح للإقامة إلاّ مجازا،  لكننا وبرغم طيش القلب لا نخذله كي لا تبقى الوطنية مجرد وجهة نظر، نلمع أحذيتنا لتطأ ترابه وننظف ذاكرتنا من أوحالها في ملحمة الصمود الكبرى، نغفل عن بوارجه التي تتسلى بأقدارنا ونعتذر للموتى نيابة عنه.
 

أغفو على وجعي
وأحلم أن يخرج طير أبيض
من فوهة البندقية

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.