شعار قسم مدونات

رؤيةُ الموت.. قصةٌ حقيقية

blogs-غرق

أيقنتُ حينها أنه الهلاك وأن ساعةَ النهايةِ قد حانت لاحت ليَ فصولُ حياتي كلُها في لحظات وودعت الدنيا علمتُ نهايتي ورضيتُ بقدري وأصبحت ألتفتُ في كل اتجاهٍ أنتظر ملكَ الموت، من أيِّ مكان سيأتي؟ وعلى أيِّ شاكلة سيكون؟ كيف سيتعامل معي؟ وهل سيقبضُني بحنان؟
 

أسئلةٌ كثيرة ماجت في خلدي في تلك الأوقاتِ العصيبة، بعدها عُرض علي شريطُ حياتي كله، خُتم العرض بتذكر حديثي لشقيقتي في ذاك الصباح ممازحاً "من يا تُرى سيغرقُ اليومَ ونعودُ بدونِه" رنَّتْ في أذني هذه الجملة أكثرَ من مرة وسلَّمتُ أنني أنا الغريقُ المقصودُ ولا أحدَ غيري، ستسرد شقيقتي قصتي لكل من سيأتي معزياً، ستُفجع أمي وسيفقدُني أصدقائي .
 

تعبتُ من التفكير وارتخى جسدي وخارتْ قواي وبدأتُ أُسلِّمُ روحي لبارئها بعدما ملَلتُ من الصراخِ والمناجاة، فخيمةُ أهلي في الشاطئ النائي بالكاد أراها كنقطةٍ في صحراءَ جرداء قاحلة، لن يسمعني أحد، لن يراني أحد، حينها لم أعد أبالي أن حتفي سيكون هنا وبهذا الشكل، بقدر ما كنت أنتظرُ قابضَ الأرواح ليخلصني من العذاب.
 

منا من غرق في البحر بحثاً عن حياة ومنا من غرق في الحروبِ والهموم والفقر والبطالة والحصار وآخرون غرقوا بملذاتهم وانسلخوا عن آهات أمتهم، كيف ستكون النهاية

من شدة تعبي وعدمِ حراكي أصبحتُ أنزلُ الى الأعماق أشرب قدْرَ استطاعتي بغير حولٍ مني ولا قوة وفي كل مرةٍ كنتُ أزيد الجرعةَ أكثر، لم أكن أتألم حينما كنت أشرب كمياتٍ كبيرة من الماء بالنهاية هو ماءٌ يدخلُ فمكَ عصباً عنك بلا ألم، لكنَّ المؤلم هو اختلاطُ الخوفِ والوحدة وجهل المصير، المؤلم أن تستعجلَ الموتَ كي تخلص من عذابِ الوحشة وتداخلِ الأفكار، المؤلم أن تنادي على كلِ حبيبٍ وقريب وعزيز ولا أحدَ يسمع ولا أحد يلبي، حينها تدركُ كم أنت ضعيفٌ أيها الإنسان، تدرك ألآ منجى ولا مخلص لك إلا الله.
 

كم هزتني صورةُ الطفل السوري الغريق إيلان كردي، هذا الجسد الغضُ الضعيف بمن استنجد ومن نادى؟ كيف كانت لحظاته الأخيرة؟ هل أبصرت والدتُه مشاهدَ غرقِ صغيرها؟ هل حاولت إنقاذَه؟ أم إنها انتظرت أن يُسلِّمَ ولدُها روحَه لخالقها كي تفعلَ الشيءَ نفسَهُ ليلتقيا في مكانٍ آخرَ بعد رحلةِ العذاب والموت؟
 

كم يهزني سماعُ غرق مئاتٍ من شبابنا العربي الطامح في عُرض البحر للبحث عن حياة كريمة، فمع غرقِ كلِّ واحدٍ منهم استرجعُ ذكرياتِ غرقي وبعثي من بعد الموت، أتجرعُ مرارةَ حالنا وواقعنا العربي المتهالك، والذي يزيدُ الطينَ بلةً استمرارُ المسلسل وتكرارُ المشاهد كما لو أنه مسلسلٌ مللنا متابعتَه ونُرغم على تكرارِ مشاهدته مراتٍ عدة، لم يعد يبالي المسؤولون في كل وطننا العربي بآمال الشباب ومستقبلهم الواعد فالمحسوبيةُ والمحاباة قد نخرت الجسدَ المنهك أصلاً.
 

ولا تدري أتضحك أم تبكي حينما يعلق برلمانيٌ مصري على غرق مركب رشيد حينما يقول "كل أم بتعيط على ابنها اللي غرق نقولها ماتعيطيش إنتي بعتي ابنك عشان حفنة دولارات" ألهذا الحد وصلنا؟ ثم يحدثونك عن عماد الأمة ثم يفسرون لك اتجاه شبابنا نحو التطرف والتشدد والمغالاة، ألآ شاهتْ الوجوه وعميتْ الأبصار.
 

طاحونة الحياة دوماً تهرسُ الضعفاء وتبتلعُ البسطاء وتُفني كلَّ من لا ظهرَ له ولا سند، ويبقى المتجبرون ويسودون ينتفشون وينتفخون، تتضخمُ كروشُهم وتتبلدُ أجسادُهم وتموت ضمائرهم، من يضمدُ جراحَ أمتِنا ويضعُ أصبعَه على نزف الدمِ الذي بلَّلَ كلَّ حيٍّ فينا، كلما تبللنا وجفَّ الدمُ عن أجسادنا غرقنا به مرةً أخرى، فمنا من غرق في البحر بحثاً عن حياة ومنا من غرق في الحروبِ والهموم والفقر والبطالة والحصار وآخرون غرقوا بملذاتهم وانسلخوا عن آهات أمتهم، كيف ستكون النهاية؟ وعلى أيِّ شاكلةٍ سيكون الخلاص؟ هل ستكون النهايةُ كقصتي التي تشبه نهايةَ كلِّ فيلمٍ في لقطاته الأخيرة؟
 

فحينما انتفخ بطني من كثرة شرب الماء وأنا في أنفاسيَ الأخيرة بعث اللهُ أحدَ الصيادين يلُمُّ غزلَه فوجدني وأنقذني بعدما كنتُ على شفا الموت، نمتُ في العناية المكثفة ثم تماثلت تدريجياً للشفاء، قصتي انتهت أما قصة ووطننا العربي فلا يُعلمُ حتى اللحظة كيف ستكونُ نهايتُها وكم عدد الأرواح التي ستُزهق لقاءَ عيشنا في استقرارٍ وسلامٍ وأمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.