شعار قسم مدونات

الجدة في عصر الفيس بوك

blogs-Grandma

أجلِسُ على الكُرسيِّ الدوّار بعد ساعاتٍ طويلةٍ من العزلة، يُزعِجني الملل الساكن والليل الباهت، والغربة التي لا أصل لها، أهرب من الأزرق التي اعتدت صحبته، أمر على توتير، أُلقي التحية على جوجل، أعودُ للأزرق من جديد، أتعثر بفيلمٍ مُهمل يُغريني الاسم " The way Home" "العودة الى المنزل"، أعتدل بالجلسة وأُدير زر التشغيل، أُعطل اشعارات الفيس بوك خلاله وأغلقُ نظام الدردشة، أتعارك والأحداث، ويصير وجهي داخلها مثلَ قطةٍ مُرتبِكة .
 

" سانغ وو المُشاكس" تأتي بِه والدته لمنزل الجدة الفقيرة كوديعة ريثما تعود من السفر، ورُغم رفضهِ لحياة العجوز ومقالبه التي لا تنتهي بها.. لا ينتهي حُب الجدةِ اليه، تُغرقه بالحُب والهدايا الكثيرة، تود لو تُغلف قلبها وتصنع به طائرات ورقية وخيوطاً ملونة لأجلِه، ويهرب بها من تلةٍ لأخرى ويقول هذا الطبق الطائر من صنعِ جدتي " قلبها يطير" …

أحزِم شريط الذاكرة للزمن الِذي مر، يصحو شيئاً من الماضي فيَّ، يضرِبُ الذاكرة حين تعود بأصولها القديمة وبالأشياء التي تفضحُ الحنينَ في القلب.

رُغم أشيائها الكثيرة، ورغم قلبها الأكبر يرفضها حتى تُهدِهِ أحجار التشغيل للعبته المفضلة وقوالب شوكولاتة وحضناً كبير وبكاء لا ينتهي ووداع ثقيل آخر الفيلم .
 

بعد ساعةٍ ونصف تميل الشاشة للأسود، ينتهي الفيلم، ويغيب وجه سانغ وو، أُغلق شاشة الجهاز رُغما عني أُغلقها بينما أسحب غليون الأكسجين لأعلى الرئة، ثمة شيء يصحو الآن ، يصحو وجه جدتي، يا ربي ما أسوأ الغُربة التي فيها أنا الآن .
 

أحزِم شريط الذاكرة للزمن الِذي مر، يصحو شيئاً من الماضي فيَّ، يضرِبُ الذاكرة حين تعود بأصولها القديمة وبالأشياء التي تفضحُ الحنينَ في القلب، تكتمل الصورة لديَّ، مثل حورية أراها، تُسدِل جدائل الشعرِ الأبيض خلفها، تتعارك الصورة والقلب، أستنهض العقل وأسأل " هذي الوجوه كيف .. كيف يا ربَّ تُهمل " ؟!

أتذكر وجهها في مثل هكذا توقيت، تحديداً مثل هذه الساعة كانت تخطفني إليها، تكوِّرُ الجسد بين ضلوعها وتطفئ اللمبة الصغيرة وقت انقطاع الكهرباء، بعدما تشبعت الحجرة الفضيَّة بأنفاسها المنثورة في كل الزوايا، وخليط الكازِ المُحترِق، تنفض اللحاف الطويل بعروقِ الغُرزةِ العريضة، تعدل الفراش، تنفضه مرَّةً ثانية فيخرج هواءً بارد فوق الخدودِ المُختلِفة يتدحرجُ للبشرة الحنطيَّة الملوَّنة، وتشدني إليها مناصفة بينها وبين الجد، يتسابقونَ لسرد الحكايا، أيهم يُصيبني بالدهشةِ أكثر وأظلَّ مُستمعة، أُغيَّرُ وجهة السمع حين تُغريني الحبكة أكثر من حنجرةِ أحدِهِم وأذوب، لا أشبع، أطلب أكثر.

حفظتُ قصة الغول والبقرة الصفراء وحكاية جبينة، حزن قلبي حينَ ظُلِمت، وكيف خبَّئت الجمال عن الحاكم، أحببت الشاطر حسن، بكيت عليه كأنَّه جاري، ودسست حبَّات المطر من عينيَّ بالكم الصوفي الخشن، سمعت عن النص نصيص، تخيَّلتُ شكله ووجهه وتعلَّقت بالطير الأخضر، كرهت زوجة الأب الشريرة وهى تذبح الصغير وتُقدِّم جسده فوق موائد الطَّعام وتنثر عظمه في الهواء آخر الحفلة .
 

أُحبُّ الجدّة وحركة اليومِ لديها، أُؤمن أن اليوم لا يزهو الا بها ونصائحها التي تزيدني حياة، أراها مثل قرصَ الشمسِ في اكتماله، أراها سيدة الدار، بصيرة العين الحاكمة والعالمة، القادرة والطاهرة والعارفة بأمور الحياة.
 

عند الظُّهر والشَّمس تهرب من وسط السَّماء بخيطٍ طويل تجاه المطبخ، أخطفُ النظر إليها من زاويةِ الباب وهي تنظِّف العدس من الشوائب أو تنظف الباميا الخضراء من رأسها بطرف السكين، أُحبها جداً وهي تفرد العجينة الصغيرة لتتمدَّد فوق الطاولة الخشبية كي تتهيَّأ لصنع الزلابيا ورشِّها بالسُّكًّر، أحبها وهي تُقشر البرتقالة السمينة وتُعطني اياها، أحبها وهي تستقبل المواليد الجُدد، تملأ الصحن البلاستيكي الكبير بالماء الدافئ، تُلقي الريحان والورد بداخلِه وتبدأ بالغُسلِ الأوَّل للصغير … الكل يبتهج.
 

أُحبها وهي تحمِلُ السلة الحمراء فوق رأسها، وتمسك بيدي لزيارةٍ وأخرى، " تجدني ونس" أجدها الحياة، أجِدُ الزمنَ تغير، أجدني أبكي من سرق تفاصيلكِ الحُلوى يا جدَّة! كيف تغيبي؟؟
 

في زمرة الفقدِ نُصابُ بالحسرة، بعضهم يتمنى لو أنَّ الجدَّات يعرِفنَ طريق الفيس بوك يلتقين بهن بكبسةِ زر كُلما أصابهم حنين ورعشة.

وأضل أسأل، ثمة شيء وحيد لا أحدَ يُنكره وهى أن التفاصيل لم تعُد مثلما كانت قبل زمن، وأن الحب الذي كان يُحاصرنا بدأ يتسحَّب منا، والسبب عزلة الحجرات التي نسكنها وتسكننا!
 

في عصر الفيس بوك صارت الزوايا محدودة، والحُجرات ضيِّقة، ومُسبِّبات العزل فُرِضت بالقُوَّة، ضاعت النعمة، تخابثوا على الجيل الشاب، زيَّنوا الشيء، أوصلوه بالعالم، بالعالم الطويل الا طرفها، وابتعدنا، واغتربنا عن جلسات الجدَّات القديمة رُبما هو السبب.. رُبما نحن!
 

في زمرة الفقدِ نُصابُ بالحسرة، بعضهم يتمنى لو أنَّ الجدَّات يعرِفنَ طريق الفيس بوك يلتقين بهن بكبسةِ زر كُلما أصابهم حنين ورعشة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.