شعار قسم مدونات

عندما استفقنا على مجزرة

A civil defence member runs at a market hit by air strikes in Aleppo's rebel-held al-Fardous district, Syria October 12, 2016. REUTERS/Abdalrhman Ismail
إنها الساعة الثانية بعد منتصف الليل من يوم 26/9/2012. كانت ليلة لا تشبه أي ليلة، صحيح أن أيام الحرب قد تباغتك كل يوم برعب جديد، إلا أن البرد حينها كان غير اعتيادي، وكأنه يأكل من عظامي فأرتجف، وكيف لا يكون كذلك وهو برد رعب!
 

صارت جنازات الشهداء ومشاهدة وثائقيات الموت من تفاصيل أيامنا، فأن يمر يوم بلا شهيد هو أشبه بسحابة بلا مطر.

تعمقت علاقتي بأمي كثيراً في الحرب، بتُّ دائماً ملتصقة بها، وصرت أشبه بطفلة تخاف من كل شيء، لكن أكثر ما كان يخيفني شبح فقد أحد من عائلتي أو أحبائي، ولأجل هذا بات حديثنا الدائر يومياً من قُتِلَ ومن اعتقل، ومن خرج للتظاهر، ومن اكتشف أنه مدسوس لدى النظام، أمور الطبخ والمنزل، والخروج، والحاجيات، باتت مملة بالنسبة لنا، نختم حديثنا بالدعاء بالفرج، ثم يخلد كل منا إلى سريره، نتصفح ذاك العالم الأزرق ونمضي في أحلام سوداء كواقعنا.

هممت بالنوم وأصوات القصف البعيدة تقرع آذاني، وكأن مخيلتي باتت ساحة إعدام، تعالت أصوات رشقات رصاص متزامنة مع صوت صراخ بعيد ومعه بكاء أطفال، فبت أطرد الوساوس من مخيلتي من أن يكون خطباً ما قد حدث بالفعل، إلى أن غلبني النعاس، وما إن طلعت شمس اليوم التالي، حتى كان أول ما فتحت عينَي عليه وجه أمي توقظني باكية وتقول "يمنى قومي في مجزرة".. مجزرة لم تعد بحاجة لتصفح قواميس اللغة العربية بحثاً عن أصول وجذور هذه الكلمة، يكفي أن تكتب هذه الكلمة في محركات البحث المختلفة لترى صور عشرات الأطفال المذبوحين والمقطعين والمحروقين، عندها فقط ستشعر أنَّ شيئاً ما ينتزع من داخلك، قد تكون روحك مثلاً!

عندما كنت صغيرة، كان يتردد أمامي في الكتب هذه الكلمة كثيراً: "مجزرة قانا، مجزرة صبرا وشاتيلا، المجازر التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني.. وغيرها". ولطالما ارتعدت من مجرد ذكر هذه الكلمة، ولكم ظننت أن زمن المجازر قد ولّى، لا أدري بأي حق كانوا يقنعنونا بأن الحياة وردية جميلة، بحجة أننا كنا أطفالاً! ألا يمكن لهم أن يجعلوا لوناً آخر للحياة يفتحون فيه عيوننا على واقعنا المر، ويحدثوننا عن مجازر سرية تجري في سجون الاحتلال الأسدي! أم أنهم كانوا ينتظرون يوماً كهذا الذي نعيشه لنفاجأ بأننا نعيش في غابة وسط وحوش لا تفقه إلا لغة الدم، ثم يأتون في نهاية المطاف ليحدثوننا عن أسطورة الشعب الواحد، والطائفة الكريمة، والعيش المشترك.

نهضت حينها من كابوسي وبت أصغي لأمي وهي تروي تفاصيل ما حدث بصوت متقطع مرتعد: "هجموا الشبيحة على المنزل الذي تسكنه هذه العائلة، أوقفوا الجميع على الحائط وأمروهم بالاستدارة نحوه ما عدا الأطفال، قتل الآباء والأمهات وكبار السن في المنزل، ثم صوب الرصاص على الطفل تلو الآخر، ولم يبق من أفراد العائلة السبعة عشر إلا طفل واحد كان مختبئاً تحت الدرج، لم يتجاوز عمره أربع سنوات".. انصرف تفكيري في تلك اللحظة إلى الطفل الذي بقي، ما الذي ينتظره؟ وكيف سيتعايش مع حياة لم يعد له فيها أحد، لماذا كان اليتم قاسياً عليه إلى هذا الحد؟ ولماذا صدقت دعوة أمه مراراً "تؤبرني، الله يجعل يومي قبل يومك"!

عم الحزن الحي يومها، وكأن هذه المجزرة قد أصابت كل بيت فيه، لا أخفي أننا كنا يومها جسداً واحداً، يؤلمنا ما يحدث في بيت جارنا، ونلبس السواد حزناً لمصابهم وكأنه مصابنا، ولا أخفي أيضاً تسللَ الرعب إلى قلوب الأهالي من أن يكونوا ضحية المجزرة القادمة، ولأجل هذا امتنع الكثيرون عن الذهاب للتشييع. لكن رغم ذلك كانت أعداد من مشى في الجنازة كبيرة، وقفتُ حينها بجانب النسوة اللاتي يبكين ويثرثرن بأدعية من قبيل "الله يصبر أمها، شو ذنب هالأطفال" كان الذهول سيد الموقف، وعلت الصدمة وجوهنا جميعاً، وكأن وجوهنا بلون الدم الذي لا زال ينزف.

نحن الأبطال الذين يكتبون ملحمة حريتهم بعدد مجازرهم، نحن أدسم مادة إعلامية تقدم أمام شاشات التلفاز.

ما هي إلا دقائق حتى أحضرت الجثث، كان عملنا أن نبكي، ندعوا على الأسد، ونعدُّ الجثث، مر أمامي يومها الشريط الإخباري للقنوات، مجزرة في هذا الحي وأخرى في ذاك، ماذا لو عاش المتفرجون المجزرة! ماذا لو كانوا جزءاً من تفاصيلها! حُمِلَت الجثث من السيارات وهي ما تزال تنزف، أكفان وأكفان مختلفة الأحجام، لم أصدق يومها أن أحد الأكفان كان بطول اليد، عائد لطفل رضيع لازال الدم ينزف منه، كنا نقول هذا الولد، وتلك الأم، وذاك الجد، وهذه الجدة، يا للرعب عندما تختصر حياة إنسان برقم!

مرّت المجزرة وجرّت بعدها مجزرة أخرى وضحايا جدد، بتنا نتعايش مع مشاهد الموت المتكررة، وصارت جنازات الشهداء ومشاهدة وثائقيات الموت من تفاصيل أيامنا، أستطيع أن أقول أن حالة من اللاشعور باتت تغلب على أكثرنا، فأن يمر يوم بلا شهيد هو أشبه بسحابة بلا مطر. وها نحن ذا بعد أربع سنوات من المجزرة لم يتغير شيء، القاتل لازال في قصره، ونحن لا زلنا نعد الشهداء ونوثق الضحايا، الذي اختلف أننا بتنا نقتل بسلاح أشد فتكاً بدماء أو بغيرها، وصرنا نتفنن في إظهار أنفسنا أننا في صورة أجمل للعالم؛ ليرى كم نحن وديعون ولسنا إرهابيون، نبدع في حملات الورود ومقطوعات الغناء الثورية، ووقفات التنديد السلمية، لكي نقول للعالم "ها نحن ذا بلا أسلحة سوى الورود".. لكن مانفعت كل سذاجتنا هذه.
 
نحن الضحايا، وباتت مهمتنا أن نبرئ أنفسنا من القتل والدم، نحن الأرقام التي ما عادت تجمع بكتاب إلى أن تحولنا إلى رقم صعب في سجلات الأمم المتحدة، نحن القتلى الذين لا سلاح لديهم سوى دموع تكوي عجزهم ليل نهار، نحن الجوعى ولا رغيف نلوكه سوى لحمنا الذي كساه القهر والخوف، نحن الأبطال الذين يكتبون ملحمة حريتهم بعدد مجازرهم، نحن أدسم مادة إعلامية تقدم أمام شاشات التلفاز.

أنا لا أكتب عن تلك المجزرة لأمضي في تفصيل حوادثها، أو لاعتبراها شيئاً فادحاً حدث في زمن غريب، فهناك العشرات منها يومياً في سوريا، لكني أحكي لأفرغ ذاكرتي من ألم السنين التي مرت، أكتب لأمسح بقايا الدماء التي علقت بجسدي منها، أكتب لأريح داخلي من وجع الفقد، أكتب لأقول مهما زينتم وجه القاتل بمساحيق التجميل، سنبقى نحن الضحايا، وإن نظرتم في مرآتكم فلن تروا سوى بشاعة من يخذلنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.