شعار قسم مدونات

شهيد الجمهورية الثانية

blogs-الشدادي

وحدها دماء الأحرار من تجرف متارس الموت والحقد والاستبداد، ووحدهم الشهداء من يصنعون حياة ويزرعون أوطانا تنبت من بين الركام، في كل وطن تبرز ثُلة من القادة الذين يهبون دمائهم الغالية لأجل ارتقاء شعوبهم. بمعنى أشمل لا تبنى الأوطان وتتحرر إلا بدماء أولئك الأبطال الذين لا يلتفتون لمصائرهم بقدر اهتمامهم بكرامة بلدانهم ويقدمون أرواحهم مهرا لهذه الكرامة التي يستحقها كل شعب ولا يضحي من أجلها غير المصطفين الأنقياء.

في تاريخنا القريب والبعيد العشرات من النماذج التي تخلد في ذاكرة الأجيال ولا تكاد تنسى، كما لا تسمح الشعوب بمحيها من ذاكرتها الجمعية. في اليمن -محور حديثنا- قدم العديد من القادة أرواحهم في وقت كانوا قادرين فيه على أن يحافظوا عليها، وأن يفدوا أنفسهم بأرواح جنودهم وأتباعهم، لكنهم أبوا أن يقدموا أرواح غيرهم على أرواحهم، واختاروا أن يكونوا هم الفدائيين وأن يحوزوا هذا الشرف عن جدارة واستحقاق.
 

ولأن التاريخ مليء والسير زاخرة بالكثير من هذه النماذج نقف في هذه التدوينة عند آخر هؤلاء القادة الذين صنعوا مجدهم بجماجمهم لا بجماجم الآخرين، اللواء الركن "عبد الرب الشدادي" باني النواة الأولى للجيش الوطني في اليمن وقائد المنطقة العسكرية الثالثة الذي ارتقى شهيدا مساء السابع من أكتوبر ألفين وستة عشر، هو أحد القادة الذين حجزوا لهم مكانة في قلب الشعب الذي يخوض معارك استعادة الجمهورية.
 

ولأن الجمهورية قرار مصيري للشعب وطريق إجباري لم يكن الرجوع منها بالأمر الهين فقد اختار الشدادي كما اختار من قبله العشرات مواصلة السير حتى تحقيق النصر أو الانضمام لمواكب الشهداء

فالجمهورية التي أعلن قيامها في السادس والعشرين من سبتمبر ألف وتسعمائة واثنين وستين، منيت بانتكاسة كبيرة في السنوات الأخيرة، فأحفاد النظام الإمامي الذي أسقطتهم تلك الثورة حين عادوا إلى الواجهة مجددا عبر انقلاب عسكري قاده عبدالملك الحوثي بالشراكة مع الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح في الحادي والعشرين من سبتمبر، وهو ما رأى فيه الكثير من النقاد سقوط للجمهورية الأولى لتبدأ معارك التحرر الوطني والمقاومة الشعبية بهدف وضع أركان الجمهورية الثانية واستعادة السلطة الشرعية.
 

السلطة التي اختارها الشعب اليمني في الحادي والعشرين من فبراير ألفين واثني عشر، وجرى الانقلاب عليها ومصادرة الإرادة الشعبية من قبل جماعة تريد استعادة نظام أمامي بائد ورئيس مخلوع يريد معاقبة شعب شب عن الطوق ورفض أن يكمل العقد الرابع تحت سلطته التي لم تقدم لليمن غير الفقر والفساد والفشل.
 

ولأن الجمهورية قرار مصيري للشعب وطريق إجباري لم يكن الرجوع منها بالأمر الهين فقد اختار الشدادي كما اختار من قبله العشرات من القادة والآلاف من الضباط والأفراد مواصلة السير حتى تحقيق النصر أو الانضمام لمواكب الشهداء. منذ عامين هي تاريخ المعارك التي تدور في كل اليمن لم يغادر اللواء الشدادي محافظة مأرب مقر المنطقة العسكرية الثالثة التي انتسب إليها ثم قاده.

لم يكن من عشاق السفريات التي يهواها الكثير من القادة ولم يزر خلالها الفنادق التي يتشبث بها آخرين، بل ظل متنقلا بين أشد الجبهات اشتعالا في مأرب، وشارك في صناعة النصر من أول كيلو متر وصل إليه الحوثيون على مشارف مركز المحافظة وحتى دحرهم إلى أطراف أطرافها البعيدة.
 

لقد بقي الشدادي شديدا كاسمه مسجلا شجاعة قل نظيرها، وأقداما يفوق قدرة الحرف على وصفه وإيفائه حقه، تنقل من منطقة الجفينة إلى تبة المصريين، ومن الوادي إلى السد، ومن الجفينة إلى صرواح وهنا قطع عهدا على نفسه مع انطلاق معركة "نصر 2" لتحرير ما تبقى من مأرب بأن لا يعود من الميدان ولا يدخل مبنى المحافظة ولا مقر المنطقة العسكرية إلا بالنصر أو الشهادة.
 

وليرتقي الشدادي في ذات المكان والزمان الذي ارتقى فيه شهيد الجمهورية الأولى "علي عبد المغني" في ستينيات القرن الماضي، وليكون هو شهيد الجمهورية الثانية ووهجها الذي لا ينطفئ

استمر منذ قرابة الشهرين في ميدان مشتعل بالمعارك، يتقدم الصفوف في كل عملية جديدة ورفض كل الوساطات والأوامر التي وصلته من قيادات رفيعة بالدولة تطالبه بالعودة والإشراف من بعيد، زاره رئيس هيئة الأركان وتواصل به نائب الرئيس سياسيون وعسكريون، مشائخ ووجهاء، قادة وأفراد، الكل كان يخشى عليه ولا يريد خسارة قائد بحجمه لكنه لم يخشى يوما على نفسه كما يخشى على الوطن، لذلك رفض كل محاولات استدراجه بالعودة وقرر أن يبقى يشق النصر في الصخر وسط ألغام زرعتها مليشيا الحوثي والمخلوع في كل شبر من جبال صرواح الصماء.
 

في لقاء أخير أتى إليه ابنه الشاب الذي اختار أن يكون على ذات الخط الذي اختاره والده، خط التضحية والفداء فعانقه عناق مودع ولم تتملكه أنانية الأبوة أو خوفها، بل أرسله إلى الجبهة وكأنه يقول خذ مكاني في ميادين الشرف من الآن ليصنع على عينه بطلا يخلفه.
 

وعند اشتداد المعارك قبيل غروب شمس الجمعة الأولى من شهر محرم وحين كان الجيش الوطني يتقدم ويحرر مواقع جديدة، طالت قذيفة أطلقها الانقلابيون القائد الفذ، ليلحق مع عدد من المقاتلين الأبطال إخوانهم من الشهداء الذين تزداد بهم رقعة خريطة اليمن كل يوم.
 

وليرتقي في ذات المكان والزمان الذي ارتقى فيه شهيد الجمهورية الأولى "علي عبد المغني" في ستينيات القرن الماضي، وليكون الشدادي هو شهيد الجمهورية الثانية ووهجها الذي لا ينطفئ، وليتسلم راية قيادة شهداء الوطن الذين يحرسون أمجاد الشعب ويحمون كرامته من عليين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.