شعار قسم مدونات

بين آل إبراهيم وشخص نوح .. الملتزم وعائلته!

Male and female pilgrims are separated by a barrier
يجدر التنويه قبل البدء في هذه المقالة أن المقصود ليس حصر الحالة في شخوص الأنبياء عليهم السلام، أو حالتهم التاريخية، بل المقصود إيجاد مقارنة بين حالين نشهدهما في عائلات الملتزمين وشخوصهم على مرّ الزمن، وبين هذين النموذجين النبويين الكريمين.

وهذه المقارنة ليست إلا من باب النقد البنّاء لنموذجين نستطيع المجازفة والقول بأنّ أحدهما نجح في تمثّيل حالة الالتزام لدى ذات الشخص ونقلها وتكرارها بصورة صحيحة وسليمة في ذرّيته من بعده، والأخرى كان الأمر فيها على خلاف ذلك.
 

تقييدنا للمصطلح "أي الالتزام والتديّن، أو الملتزم والمتديّن"، هنا سيخرج الكثير والكثير من الحالات المرفوضة التي نراها من هذا الباب.

ولئن كانت الهداية الربانية لها سرّها الخاص، المتجلّي في مطلق علم الإله وتوفيقه، المرافق لصدق توجّه الفرد بذاته لطلبها ومجاهدته الخاصة في هذه الحياة للوصول إليها، إلا أنّ ذلك لا يمنع من وجود عوامل نجاح وعوامل فشل قد نستطيع تلمّسها أو تشخيصها خروجًا من أزمة كبيرة تتمثل في وجود تباين بين لسان الحال والمقال، أو بين الشخص وأفكاره ومبادئه، وبين تمثيله لهذه المبادئ عمليًا في أسرته، وصولًا إلى الثمرة المرجوة، وهي تكرار التجربة الصحيحة واستمرارها فيما بعد.
 

هل يعني ذلك عدم وجود أخطاء، مزالق، نكسات؟!
لا بالطبع؛ فنحن نتحدث عن البشر، لا عن الملائكة، والتجارب البشرية على كثرتها تعطيك احتمالات لا تنتهي، أنت تستطيع توصيف الظاهرة، وربما تضع يدك على عوامل النجاح أو الفشل، لكن تبقى لكل حالة ظروفها ومعطياتها سواء في الجانب العميق الداخلي الخفي للنفس وتفاعلاتها، أم في العوامل الخارجية المتعددة التي تجعل من الرحلة البشرية رحلة محفوفة بالمخاطر لا تنتهي إلا بانتهاء هذه الرحلة، ولا تعلم نتيجتها إلا بعد حساب رباني عادل من شأنه أن يضع كل هذه المعطيات في الحسبان، كما هو عادل من أول التجربة في معطياته ورسائله وهداياته وتحذيراته.

لذا فلا نقول إنه لا يوجد لدينا إلا هذين النموذجين، على المستوى الافتراضي والواقعي، بل هناك حالات أخرى جمعت في داخلها النموذجين -عائلة آدم وعائلة يعقوب عليهما السلام- وحتى لا تطول المقدّمة اكثر، فحريٌ بنا أن ننتقل لمتن الفكرة وتوضيحها.
 

يقول الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) " آل عمران.
وقد ذُكِرَ نوحٌ عليه السلام هنا بفرديّته، بينما جاء ذكر عائلة إبراهيم عليه السلام بالوصف العائلي: " آل"، وفي العديد من السياقات القرآنية يُفصّل ذلك، فيذكر إسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وهو على ما يظهر الأبناء من أمّين مختلفتين، والأحفاد، ومن بعدهم.

ولا يجهل أحدنا امتداد النبوّة في آل إبراهيم، بينما لم يكن كذلك الحال مع نوحٍ عليه السلام، كما لا يجهل أحدنا واقعتين تاريخيتين مشهورتين، إحداهما حادثة الذبح والفداء لإسماعيل عليه السلام، والحوار المذهل الذي دار بين الأب وابنه، ونقله لنا القرآن الكريم بمفرداته الشفيفة، والحالة العاطفية العميقة التي نقلتها لنا الآيات من شعورنا بالأبوة الحانية الحزينة الممتثلة لمراد الله في حكمه وقضائه، والبنوّة البارّة الملتزمة الراضية كذلك بقضاء الله وقدره.

وننتقل إلى حوار آخر سابق زمنيًا بين نوحٍ عليه السلام وابنه في وقت الأزمة كذلك، وتلك الأبوّة الحانية المشفقة الطامحة والطامعة بصلاح الابن ونجاته، والبنوّة الجاحدة القاسية حتى جاء قدر الله حاسمًا المشهد بحيلولة الموج بينهما.

ما من قارئ للنصَّين الربانيين إلا وتحضره صورتان متضادتان، وشعوران متناقضان بين الغبطة بالعلاقة بين إبراهيم وابنه عليهما السلام، والحيرة والألم لما وصل إليه الحال بابن نوح عليه السلام.

نعود مرة أخرى للمراد هنا والذي يظهر أننا لسنا أمام مقال واحد، فليست معالجة واحدة كافية لإعطاء الظاهرة حقّها، لذا قد تتبعه مقالات أخرى، ذلك أننا نجد أنفسنا أمام ظاهرة يصفها بعضنا بالأزمة؛ أزمة أصابت وتصيب بيوت الملتزمين، أو المتدينين، أو من ينسبون أنفسهم لذلك.

حالة الشرخ العميقة بين حال الآباء والأبناء، أو الظاهر والباطن، أو الشخص كقيمة لها وزنها في المجتمع أو في المحيط، وحال عائلته الذي قد يكون من باب النقيض بالنقيض.

وهذه الظاهرة مرئيّة مشاهدة منتقدة، خاصة لدى المراقب من الخارج، نحن بحاجة إلى ضبط مصطلح الالتزام، فليس كلُّ مدّع وصلًا بليلى صادقٌ في ادّعائه، أي أننا بحاجة ابتداءً لتعريف الالتزام وأهله، فليس الأمر مقتصرًا على الشكل الخارجي المتمثل بالزي مثلًا، فهو تمثّل لقيمة وليس القيمة ذاتها.
 

وليس المراد الأداء الظاهر للفرائض المأمور بها في ديننا وإن كان ذلك مطلوبًا، بل يتعدى الأمر ذلك إلى منظومة منضبطة تجمع بين الخُلُق والسلوك، بين المظهر والجوهر، وأي خلل في معادلة التوازن هذه بين أطرافها قد يودي لنتيجة ما نسمّيه بالنفاق السلوكيّ، وهو ما تكرر رفضه والتحذير من مظاهره وأسبابه في الشرع الحنيف: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)"الصفّ.

وتقييدنا للمصطلح "أي الالتزام والتديّن، أو الملتزم والمتديّن"، هنا سيخرج الكثير والكثير من الحالات المرفوضة التي نراها من هذا الباب، الأمر الذي سيريح النفوس المتسائلة المضطربة أمام الكثير من الحالات؛ أليس هذا ابن فلان؟! أليست هذه ابنة فلانة؟! فلا يعود الأمر تقليدًا عائليًا ولا وراثة بل اختيار شخصي مسؤول.

كما أنّ تقييدنا له سيجبر الكثير من أدعياء الالتزام، المتسلّقين عليه وصولًا لمصالح شخصية، على الوقوف مليًا مع أنفسهم ومراجعة ذواتهم وأحوالهم وتقويمها،وسيفوّت الفرصة على المترصدين المتصيدين للأخطاء، من نسب الخلل للشرع وتعاليمه، غاية ما في الأمر أن السلوكيات تنحصر بأصحابها وتمثّل ذواتهم؛ خاصة منها التي أساءت فهم الدين وتطبيقه، فقدّمت نماذج مشوهة لا تمثّل الشرع ونصوصه ولا مقاصده العليا التي جاءت لهداية الناس والنجاة بهم.

بحاجة نحن للفصل بين القيمة وتطبيقات الأفراد الناقصة أو المشوّهة لها، وألا نعلّق أخطاء التطبيق على شمّاعة الدين، بل أن تعالج كل حالة بأفرادها.

ونحن بحاجة كذلك للتوقف عن تعميم الأحكام ومحاسبة الناس وفقًا للشكل الظاهري، أو غيره، ذلك أننا جزء من المشكلة، المجتمع بذاته طرف لا يستهان به في المشكلة، وهذه تشعبات يحتاج كل منها لدراسة مستقلة آخذة بعين الاعتبار مجموع العوامل والمتغيرات بالحسبان.
 

نحن بحاجة كذلك للتوقف عن تعميم الأحكام ومحاسبة الناس وفقًا للشكل الظاهري أو غيره، ذلك أننا جزء من المشكلة، المجتمع بذاته طرف لا يستهان به في المشكلة.

إنّ الملتزم دينيا أو الموصوف بذلك، تصرفاته وسلوكه، عائلته وتمثيلاتها للقيم التي ينادي بها، تحت مجهر أعين الناس دائمًا، يصدّرون أي خبر عنه بوصف الالتزام، فإن كان الخبر سارًا كنجاح أو تفوق أو قيمة إيجابية مضافة للمجتمع فإن ذلك راجع لالتزامه بشرع الله، وإن كان الخبر على غير ذلك من إساءة تصرّف أو غيره، خاصة ما يتعلق بجانب الأسرة والمجتمع، أو في الجوانب المالية، فإن علامة التعجّب والاستفهام الكبيرة تتبعه، أيفعل ذلك الملتزم؟! أو أهذه هي أخلاق أهل الالتزام وصولًا إلى ما يدّعيه غيرهم من أن تلك الحالات والتصرّفات حجبتهم عن الالتزام ومنعتهم منه!

هل أثرت التساؤلات هنا؟ وهل ألقيت في الماء الراكد حجراً؟!

هذا جزء من الهدف.

هل أجابت المقالة على سؤال سبب نجاح تجارب وفشل أخرى في تمثيل الالتزام وتطبيقه؟
ليس مقالاً واحداً، كافٍ لذلك، إنما هو خطوة على الطريق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.