شعار قسم مدونات

في حضرة القادة!

blogs - sharq
انتهى المؤتمر الذي أقامه منتدى الشرق بعنوان:
(envision a post-crisis regional order in the sharq region)
أي: تصور النظام الإقليمي في منطقة الشرق ما بعد الأزمات.
 

المؤتمر حضره الكثير من السياسيين والدبلوماسيين والأكاديميين العرب وغير العرب، كان من أبرز الحاضرين المفكر والسياسي الدكتور محمد منصف المرزوقي الرئيس السابق لجمهورية تونس، والذي يعد أول رئيس في العالم العربي يأتي إلى سدة الحكم ديموقراطياً ويسلم السلطة ديموقراطياً إلى المعارض المنافس بعد انتهاء مدة ولايته، حتى أنه اتصل هاتفياً بمنافسه وهنأه بفوزه!

الرجل الذي لم يتمالك دموعه من خلف النظارة التي كانت تتلائم جيداً مع تجاعيد بشرته السمراء وكبر سنه، حين عرف أني غادرت العراق بعد أن قُتل أبي وقبلها لم يكن لي خيار حين غيّرت اسمي.
 

كانت هناك فرصة لهؤلاء السياسين أن يرتبوا صفوفهم ويوحدوا بوصلتهم في المنطقة ليخرجوا بنا إلى بر الأمان، إلا أن الحقيقة المرّة والواقع كان غير هذا.

ومن نفس البقعة الأرضية حضر المؤتمر رئيس الوزراء السابق المهندس علي العريِّض، الذي كان لي الشرف أن شاركته نفس طاولة الطعام في وجبة العشاء حيث كان جالساً أمامي محدقاً إلي بعحبٍ متى سأبدأ الحديث معه والتعرف عليه وهو من هو وأنا من أنا!

وفعلاً بادر صديقي الذي بجانبي بالسؤال: هل لنا أن نتعرف على حضرتكم فقد تشاركنا وضعنا القدر على نفس الطاولة؟ ظانين أنه عضواً في مؤسسة ما أو صحفياً يقوم بعمله بين هؤلاء القادة، فكانت الصدمة حين أجاب من كان بجابنه: أنه الأستاذ علي العريّض رئيس الوزراء التونسي السابق! وأنتم؟!

فما بين الشعور بالفخر لجلوسنا معه وصحبته وبين الابتسامة العريضة التي في داخلنا صديقي وأنا، أجاب صديقي أنا أحمد عراقي من الفلوجة وهذا عمر عراقي أيضا من البصرة.. سكت لثواني وبدا على محياه الحزن، فقد عدنا به إلى الوراء قليلاً.. عدنا به إلى عراق الأمس الذي كان سيّد المنطقة عراق الحضارة والعلم.

فسرد لنا شيئاً من الذاكرة شيئاً كنا نحن كعراقيين نجهلهه، قال: أنه في الثمانيات من هذا القرن وفي الوقت الذي كان به صدام رئيساً للعراق، كان منهجهم الدراسي يأتي من العراق ويُدَرس في تونس! بل أن معظم أساتذته في الثانوية آنذاك كانوا خريجي جامعات عراقية.

لوهلة شعرنا بالفخر أحمد وأنا، لكن سرعان ما عدنا إلى رشدنا وأدركنا أن نظرية "التاريخ يعيد نفسه" ليست صحيحة كما يشاع، بل إن الإنسان هو من يكرر حماقاته ولا يتعلم.

ومن بلاد العثمانيين حضر وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو، كما حضر المتحدث باسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. كما حضر برلمانيون وكتاب وأكاديميون عرب وأجانب وإيرانيون حتى.

كانت هناك فرصة لهؤلاء السياسين أن يرتبوا صفوفهم ويوحدوا بوصلتهم في المنطقة ليخرجوا بنا إلى بر الأمان، إلا أن الحقيقة المرّة والواقع كان غير هذا فأغلب الحاضرين لا يكمن بإيديهم ورقة التغيير المطلوبة لأسباب عدة.

منها أن البعض ورقتهم السياسية محروقة منذ زمن ولا يملكون سوى ألقاباً يتبعها "السابق"، أما البعض الآخر فورقتهم السياسية بأيدي غيرهم أصلاً وليس لهم الخيار في شيء! ناهيك عن الكلام الذي قيل والذي أغلبه كان مستنسخاً لا يحمل سوى "يجب.. ولا بد" اللتين سئمنا منهما.

أفضل ما كان في المؤتمر أننا نحن وهؤلاء القادة الذين قضينا أعمارنا نراهم من خلف الشاشة فقط كنا سواسية في ذلك اليوم على الأقل في مجلسنا ومشربنا!

أقصد "بنحن" الذين نتناول طعام اليوم ولا ندري هل سيكون متوفراً لنا في الغد أم لا، نحن الذين لا نملك سوى خيار الباص العمومي للذهاب إلى العمل.. العمل لعشر ساعات في اليوم وفي آخر الشهر نستلم الراتب لنسلمه أجرةً لصاحب البيت والباقي على الله.
 

في حضرة القادة كان يوماً من الخيال أو هو الواقع بعينه، الواقع الذي يجب أن نعيشه كل يوم لا ليوم أو يومين فما نحن وهم إلا على حد سواء.

نعم كنا نحن وهؤلاء القادة معاً، حتى أننا ركبنا في نفس الباص الذي أقلنا من فندق "swiss otel" فندق ذو إطلالة ساحرة على مضيق البسفور الفاصل بين الجانبين الأوربي والآسيوي لمدينة إسطنبول، حيث كان المرزوقي جالساً في المقعد أمامي وعلى يميني برلماني عراقي وخلفي كان يجلس أيمن نور البرلماني المصري الذي نافس حسني مبارك في الانتخابات ليعتقل بعدها مدة أربع سنوات!

كنا ذاهبين إلى المطعم المطل على بحر مرمرة المتصل بالبحر الأسود عن طريق مضيق البسفور وببحر أيجة عن طريق مضيق الدردنيل لتناول وجبة العشاء.

جلسنا نحن و هؤلاء القادة على نفس الطاولة نتناول المقبلات التركية بانتظار شخصية لم يُعرف من هو أو هي بعد! يدخل علينا الشيخ خميس الخنجر الأمين العام للمشروع العربي الرجل الهادئ، صاحب الابتسامة الدائمة، رجل الكواليس.

وبعده بدقائق يدخل البروفسور الدكتور أحمد داوود أوغلو مع مرافقه الدائم زوجه سارة، كانت كلماته ذات معنى أدق وأعمق وأقرب إلى الواقع من كلمات السياسين في المؤتمر.

بدأ بسرد أحداث من التاريخ القريب والبعيد وكيف كانت لفلسفته وعقليته وتقبله للرأي الآخر وإن كان مخالفاً لرأيه دور مهم للتعايش والتقدم في تركيا في ظل اختلاف الأعراق والقوميات والمذاهب الموجودة.

كما ذكر أن مفتاح المنطقة للعبور بها إلى بر الأمان يكمن في تقبل الآخر مهما كان مختلفاً، يكفي أن نكون تحت مظلة وطن واحد، وكيف أن الجميع من عرب وكرد وروم مسلمين وغير مسلمين كانوا كلهم تحت راية الدولة العثمانية.

وختم كلامه قائلاً: لازلت انتظر اليوم الذي أسافر فيه من إسطنبول إلى بغداد ومنها إلى طهران ومنها إلى دمشق ومنها إلى القاهرة من دون تأشيرة دخول.

في حضرة القادة كان يوماً من الخيال أو هو الواقع بعينه، الواقع الذي يجب أن نعيشه كل يوم لا ليوم أو يومين فما نحن وهم إلا على حد سواء خلقنا من ترابٍ واحد وسنعود إلى نفس التراب يوماً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.