شعار قسم مدونات

تكلم حتى أراك..

blogs - confidence

لا تزال الكلمة في الثقافة العربية الإسلامية عنواناً بارزاً في واجهة حضارتها التي وُسِمت بأنّها حضارة كلمة ونَص.
 

وإذا كانت الخطابة أداة في الاتصال والتواصل قديماً، فقد تستر المتكلمون والوجهاء اليوم خلف عوالم افتراضية تحجب الرؤية عن حقيقة كلامهم، فقد يتزين المرء بجميل اللباس، ويتستر خلف جليل المعاني، غير أنه متى تكلم أمام الملأ تلعثم، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا مشى تعثر.

ولو حاولنا أن نوجه هذا الأمر "تكلم حتى أراك" إلى الزعماء السياسيين فإننا سنفاجأ بحجم الهوة بين الصورة والكلمة وبين الزعامة و المعاملة، وبين الوجاهة والبداهة في الخطاب والخطابة.

أزمة الكلمة هي من أزمة المعنى وأزمة المعنى من أزمة القيم الجماعية حين تحولت زعامة الجماعات إلى جماعة الزعامات.. وتحول خطيب الجماعة إلى وسيط مُلقَّن.

إنّ أزمة التناسق والتوافق بين الخطابة المباشرة التي تجلوها المناظرات والمحاورات والوجاهة التي تحتجب بالصورة والمظهر دون المخبر، تعيد إلى السطح أهمية الحفاظ على وزن الكلمة معياراً عمدة في ترشيح الزعامات وتقديم القيادات إلى المناصب والمحافل الإعلامية والمشاهد العامة.

إنّ من يعجز عن الكلام بحرارة الوجدان، وصدق البيان، وشفافية الجَنان -بفتح الجيم-، فهو أقرب إلى التمثيل ومغالطة الآخرين، لذلك كانت مقولة سقراط مرجعاً تعليمياً في اكتشاف حقيقة الإنسان، فحينما كان يدرس طلبته ويحاورهم وفد عليه أحد الوجهاء بزيّه ومظهر وظلّ يراقب المشهد باستعلاء وكبرياء، فواجهه سقراط بتلك المقولة ليكشف عن حقيقة مخبره قبل حقيقة مظهره.

فلا يرى العالم المرء بصورته بل بتصوّره ومنطقه، فيتحول حين ينطق من التخفي غلى التجلي ومن الغائب إلى الشاهد، لأنه يتشكل حينئذ كياناً تواصلياً مكتملاً لا صورة مبتورة ومشوهة.

كم نشتاق إذن أن نرى السياسيين يخطبون ويحاورن بمنطق العقلاء والنزهاء، وكم نحتاج أن نشاهد المدونين في ساحات عامة يعبّرون عن أشواق الأمة في الحرّية والكرامة دون مزايدة أو احتشام وعجز عن المواجهة والمصارحة، وكم نتمنى أن نواجه الزعماء بحقيقة مواقفهم وخطابهم الذي لم يتجاوز الدرجة الصفر في التواصل السياسي العقلاني الجامع والثاقب دون مستشار أو ملقّن.

إنّها أمنيات تواصليّة مشروعة في لحظة صدق حضارية ، تحتاج فيها الأمّة إلى استجماع شملها من أجل إعادة الاعتبار للكلمة الصادقة التي تنطق فصيحة بليغة، تهدف إلى البيان والتبيين، وتروم الإفهام والتفهيم، وتراوح بين الإبلاغ الواضح والإقناع الفاضح والإمتاع المثير والإبداع المنير.

فليت قومنا يتكلمون، وإذ يتكلمون يبلغون فيقنعون، وليتهم حينئذ يمتعون فيبدعون، فقد كره شبابنا الخطب المتكررة والخطابات المتماثلة والعبارات الجاهزة والنصوص النمطية، وتاقت نفسه إلى زعيم خطيب يجمع حوله الناس دون أن يخدعهم أو ينقلب عليهم.

أيها المدوّن تكلم حتى أراك.. أيها الزعيم تكلم حتى أراك.. أيها القائد تكلم حتى أراك.. وإلا كن مسيحاً دجالاً.. أو مهدياً منتظراً.. أو صورة بلا معنى.. أو كلمة بلا صدى أو موجة بلا بحر.. فالأمر حينها سواء.

أزمة الكلمة هي من أزمة المعنى وأزمة المعنى من أزمة القيم الجماعية حين تحولت زعامة الجماعات إلى جماعة الزعامات.. وتحوّل خطيب الجماعة إلى وسيط مُلقّن -بفتح القاف- ومهرجان من الزخرف والزينة دون مضمون أو معنى أو قدرة على أن يرى وقد غاب خلف صورة الغرور والاستعلاء والعجز والبهرج والصمت المقدس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.