شعار قسم مدونات

في العراق.. مازال التعايش ممكنا

blogs - iraq
لم يتمزق النسيج الاجتماعي في العراق بالكلية، رغم عقد من الموت والدمار والطائفية والفساد والحروب العبثية بين مكونات الشعب بقيادة ساسته وقادة أحزابه وميلشياته، وما زال رغم كل ما جرى وحصل، التعايش بين العراقيين ممكنا.

ليست نظرة تفاؤلية تلك، بقدر ما هي نظرة واقعية نابعة من صميم التعايش اليومي للعراقيين الموجود أصلا والذي لم يختل في يوم ما، اللهم إلا بما كانت تفرضه الظروف عليهم.

كان التعاون على أشده بين العراقيين، حتى تفجرت الطائفية بصورتها البشعة عقب تفجيرات سامراء في فبراير 2006، لتبدأ مرحلة الاقتتال، والتي استمرت بأعنف صورها الطائفية.

هناك اليوم جيوش تقاتل في العراق، وليس جيشا واحدا، فلم يعد لكل طائفة جيشا، وإنما صار لكل حزب جيشه الخاص وميلشياته، ناهيك عن جيوش الخفاء التي تديرها وكالات المخابرات الدولية في العراق، ومعها أيضا جيوش الجريمة المنظمة وغير المنظمة وطبعا لا ننسى جيوش العشائر، ومع ذلك أقول باطمئنان أن التعايش بين العراقيين ما زال ممكنا.
 

عقب عام 2003 وعندما دخلت القوات الأمريكية بغداد، محتلة، وتداعي جموع من الشعب العراقي إلى سرقة المؤسسات الحكومية، لم يكن ذلك الفعل فعلا منبتاً عما رسمه وإرادة الاحتلال، فلقد كانت قواته تقف قرب أي مؤسسة وتخير العراقيين بين حرقها أو الدخول وأخذ ممتلكاتها قبل حرقها بعد ذلك من قبل الجيش الأمريكي.

التقط الإعلام الغربي والأمريكي على وجه الخصوص تلك الصور الشاذة والمسيئة للحديث عن الشعب العراقي ووصفه ونعته بما يريد هو وبما يتناسب وحجم الجريمة، ولكن لم تكن تلك الحقيقة، كما أنها لم تعبر عما جرى بعد ذلك خلال أشهر وحتى سنوات.
 

اتخذ المحتل الأمريكي جملة من القرارات التي أسهمت بشكل كبير في إفراغ الدولة من محتواها المؤسساتي، فبالإضافة إلى حل الجيش، فإن كل الأجهزة الأمنية بما فيها شرطة المرور أقعدها المحتل في المنزل وأفرغت الشوارع من أصحاب البدلات البيضاء الذين كانوا يسيرون حركة الشوارع، ومع ذلك كانت الانسيابية في تلك الشوارع مميزة، بل أستطيع القول أن لا حوادث مرورية شهدتها اغلب شوارع بغداد آنذاك، رغم غياب رجل المرور وحتى الإشارات الضوئية المنظمة للحركة، وما كان ذلك ليكون لولا أن هناك تفاهم وتعايش بين أبناء المجتمع.

كان التعاون على أشده بين العراقيين، حتى تفجرت الطائفية بصورتها البشعة عقب تفجيرات سامراء في فبراير 2006، لتبدأ مرحلة الاقتتال، والتي استمرت بأعنف صورها الطائفية، يدعمها إعلام محلي مسيس وطائفي ولا مهني، لعب وسخر كل أدواته من أجل إشعال الصراع والحرب الأهلية بين العراقيين، وهي الحرب التي رأت فيها أمريكا خلاصها عقب انتصارات المقاومة العراقية منذ 2003 وحتى العام 2006 بعد أن وجد العراقيين أنفسهم وجها لوجه بأسلحة أمريكية وإيرانية.

ومثلما رأت أمريكا في الحرب الاهلية، حلا لوضعها المأزوم في العراق ، فان ساسة ما بعد الانسحاب الأمريكي عام 2011 وجدوا في ذات الحرب الاهلية والطائفية البشعة ، خلاصا لهم من انتقام الشعب الذي فتح عينه على حجم فساد هائل، فمارسوا الإقصاء بشتى أنواعه، ومارسوا الموت والقتل والاعتقال حتى ضجت السجون وصاحت تستغيث المقابر.

ليس صحيحا أن الطائفية مزقت العراقيين وأنها قدرهم، فلقد أدرك الشعب مبكرا أنها لعبة كبار، وأنه سيذهب بين أقدام اللاعبين الكبار.

جاءت داعش ردا على تلك الممارسات، وقتلت كل من يقف بوجه مشروعها الذي تعتقد، ولم تفرق بين عراقي وآخر، ولم تنظر إلى مذهب أو قومية، ومع ذلك لم يستثمر ساسة العراق ذلك لتوحيد الشعب من جديد بوجه هذا الغول المتوحش، لأنهم اصلا لا يريدون ذلك، فالطائفية سبب بقاءهم وسبب وجودهم.

رُسمت المناطق، وتفرق الجيران بفعل معول الموت الطائفي الذي حملته الميلشيات والحكومة العراقية منذ 2003 وحتى اليوم، واعتقد البعض أن نسيج المجتمع العراقي تمزق، ولكن من يسمع قصص العراقيين وحياتهم اليومية يدرك جيدا أن التعايش مازال ممكنا.

مازال العراقي السني والشيعي يتزاوجون رغم كل نهر الدم الذي بينهما، ومازالت المناطق في بغداد تختلط، وبعضها مختلطة أصلا حتى الان، تعيش بتماسك اجتماعي عجيب، ومازالت بيوت سنية في مناطق شيعية بعهدة عوائل شيعية والعكس صحيح "حتى يفرجها الله".

ليس صحيحا أن الطائفية مزقت العراقيين وأنها قدرهم، فلقد أدرك الشعب مبكرا أنها لعبة كبار، وأنه سيذهب بين أقدام اللاعبين الكبار، وهو ما جرى، لذا أسهم ذلك في بقاء أواصر اجتماعية عديدة قابلة للحياة في أي وقت يأتي إلى منطقة العراق الخضراء ساسة جدد يؤمنون بالعراق شعبا قبل أن يؤمنوا به نفطاً وأطماعاً.

نعم الجرح كبير والمصيبة أكبر، ونهر الدم الذي أراد منه ساسة العراق الجدد أن يكون نهرا فاصلا بين عراقي وآخر مازال لم يجف بعد، ولكن هناك أمل، فالعراقيون شعب لديه كل أسباب التعايش والحياة من جديد، وكل ما ينقصه أن يتخلص من طغمة حاكمة لم تر فيه سوى غنيمة وجسرا لتحقيق أهدافها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.