شعار قسم مدونات

كتابي الذي لن أضعه

blogs - writer
أما قبل،
قالوا لي أن أضع كتاباً أسكبُ فيه بعضاً من كتاباتي، بعد أن أثنوا على ما أكتبه ووصفوه بالإبداع الأدبي، وفي كل مرة أطأطىء فيها رأسي تواضعاً، وأجيب بمعهود الردود الجافة.. أما اليوم فقد وجدتُ نفسي قادرةً على أن أكتب قليلاً مما يجولُ في خاطري من ردود أرتضيها.. فكما تعلمون، زخّ الإجابات أحياناً يكون حاجباً للإجابة الشفهية المباشرة. تتضارب الأفكار والهواجس، فيخرجُ حصادها مبعثراً، أو نصف ناضج، وهذا كلّه يعدُّ مجلبة للندم فيما بعد، فالإجابات الناقصة تُورِث التحسّر في لحظات الصفاء.

أما بعد،
يبرقُ في خاطري بين الفترة والأخرى، قول الأديب الكبير الرافعي في "وحيه": "وليس يكونُ الأدبُ إلا إذا ذهب يستحدثُ ويخترعُ على ما يصرّفُه النوابغ من أهله، حتى يُؤرّخَ بهم، فيُقال أدبُ فلان، وطريقة فلان، ومذهب فلان، إذ لا يجري الأمر فيما علا وتوسّط ونزل إلا على إبداعٍ غير تقليد، وتقليدٍ غير اتباع، واتباعٍ غير تسليم، فلا بدّ من الرأي ونبوغ الرأي واستقلال الرأي… فيخرجُ ضربٌ من الآداب كأنه نوعٌ من التحوّل في الوجود الإنساني يرجعُ بالحياة إلى ذرات معانيها، ثمّ يرسمُ من هذه المعاني مثل ما أبدعت ذرّات الخليقة في تركيب من تركيب، فلا يكون للأديب تعريفٌ إلا أنه المُقلّد الإلهيّ".

إنه كلما تدنت حمم الثقافة، كما زادت علل خراب المجتمع.
وعلى ما قاله في الأدب فَقِسْ باقي العلوم.. هل فكرت يوماً بحال الإمام الشافعي دون اجتهادٍ؟ أو بأبي حنيفة دون فقه؟ أو بمالكٍ دون رواية؟ أو بابن حنبل ولكن دون حديث؟ وبالفراهيدي دون علم العروض؟ وبسيبويه دون النحو؟ وبابن خلدون دون علم الاجتماع؟ وبأديسون دون كهرباء؟

لقد قُرِن اسم كل واحدٍ منهم بعلمٍ معين، وضع أصوله، خطّ فيه أسلوبه، فأُرِّخَ باسمه، حتّى أمسى عَلماً من أعلام العلوم، سواء أكانت علوماً نظرية أو تطبيقية.. فذلك لا يهم.. المهم أنه لم يكن نسخة عن غيره.. وإن قلت: كل العلوم قد وضعت أصولها في عصرنا، فليس من تجديد بعد اليوم، فهذا دليل استسلامٍ وخنوع وكسل، وحبّ لرفع المسؤولية عن النفس، والتعويل على نجاح الآخرين وتعبهم وعمرهم.

نعم! نحن الآن في حقبة اجترار العلوم، وعصر ابتكار الغلافات الجديدة فقط.. في كل معرض كتاب سنوي، ترى أن ثلة من كُتابٍ جدد ظهرت فجأة، أنجبوا عدداً لا بأس به من الكتب، ثمّ رصفوا ما أنتجوا كيفما اتفق على رفوف المكتبات دون أن يُقدّروا أن بفعلتهم هذه قد أفقدُوا الكتاب رونقه، وشوّهوا بذلك سمعته… الرونق الذي يدورُ في فلك إبداع الأسلوب، وجدّة الفكرة والحكمة المستخلصة، والسمعة التي قضى أجدادنا ودفعوا أوراق أعمارهم لبناء صرح عزّتها.

وأنا لا أقلل من شأن أحدٍ، فالكثير من الشباب يميل إلى تنفيس طاقاته الداخلية بالكتابة، والتدوين.. لكنّي ضدّ كتابة الكتب وبيعها إن كانت فكرة الكتاب مستهلكة أو مبتذلة.. وما أراه عادةً، أن الكِتاب إن لم يلقَ رواجاً ومبيعاً اضطر صاحبه إلى وضعه على صفحات تحميل الكتب الإلكترونية، وانتهى الأمر.. وهذا ما لا أريده أن يحصل.. فخيبة الأمل صعبة يا صديقي، خاصة إن استنفذت طاقاتك المحدودة في سبيل إطلاق ما لديك من أفكار…

ثم نرى أن كمّاً من القراء بدأ يصِفُ نفسه بالمثقف، بعد أن قرأ روايتين ونصف، وبضع قصاصاتٍ من مجلة ثقافية، فغدا مثقفاً بأبعادٍِ ثلاثية. تلك الثقافة المزيفة الوصولية أمست خطراً محدقاً على طبقة المثقفين وعلى المجتمع القادم أيضاً، فإنه كلما تدنّت حمم الثقافة، كلما زادت علل خراب المجتمع. ولا أدري من قال لهم أن الروايات، والمجلات الثقافية، هي من تصنع من الإنسان قادراً على إنجاب الإبداع أو تُلقح ما يحمله من قُدرات ومهارات مكتسبة، وتجعله خلّاقاً ونسّجاً وحبّكاً بما يعينه على تطوير المجتمع لأبعد الحدود، أو لديه ريادية ذكيّة في كسب الحوار..

الكُتّاب بحقٍّ لا يموتون، بل هم أحياء في كتبهم يرزقون.

وفي الوقت ذاته، لا ضير ولا غضاضة في قراءة الروايات والمجلات الثقافية بحدود ١٠٪ من قراءاتك الذاتية. فأنا مثلاً تستهويني كتابات "أدهم شرقاوي"، لما في أسلوبه من سلاسة، وما فيها من عبر وحكم مستخلصة من واقع الحال، الممزوجة بحسّ الدعابة المضحكة المبكية، بالإضافة إلى الألفاظ السهلة التي يتقنها الجميع.. فهو يَحبِك من هذه الألفاظ معانٍ عظيمة، وإن قيل أن ليس في كتاباته أي نفع أدبي لما فيها من سهولة وتبيان، فهذا لا يهم، فأنا عن ذاتي أرتاحُ عندما أقرأ له في لحظات أشعر فيها أني بحاجة لأن أغترب عن العالم وعن ذاتي، لا أن أفتح معجماً أبحثُ فيه عن معانٍ غير قياسية مبهمة تتحدثُ بها إحدى قبائل البدو المجهولة في صحراء مترامية الأطراف، وفي الوقت عينه، لا أعوّلُ عليها لأبني لغتي، وثقافتي، ومعارفي..! 

وبالرجوع إلى واقع حالي، فأنا لا أجدُ نفسي بعد قادرة على إنجاب الإبداع، أو ما يجعلني سطراً فارقاً في كتاب الكون، ولم أقتنص بعد تلك الفكرة التي سترتبطُ باسمي يوماً ما.. فأنا لم أضبط آرائي وهواجسي بعد، لم أحط باللغة والأساليب والمعاني والأغراض والدواعي بعد… التميّز يحتاج إلى أطوارٍ كثيرة يا أعزائي، وأهمها: بناء المعارف، وصقل المهارات، وإتقان الأدوات اللازمة للعلم الذي ستتبنى تجديده، وهذا قد يتطلبُ ردحاً طويلاً من الزمن والنّفس.

لا أريد أن أكون فرداً متكرراً، أو نسخة قابلة للإختزال، بل أريد لكتاباتي أن تطبعَ في قراطيس إنجازات المُجدّدين، فتخلّد فلا أموت.. فأنا مقتنعة تماماً أن: "الكُتّاب بحقٍّ لا يموتون، بل هم أحياء في كتبهم يرزقون"..

إن الكتابة فعلُ اقتناصٍ للفرص، في لحظة تجلي، ورفع للحُجب. لا يمكن استجداء هذا الفعل بالقوة.

لا أريد لكتاباتي العابرة خلال فترة تحضير الذات ريثما أصل إلى ما أطمح له، أن تكون عبئاً على المكتبات ورفوفها، فأنا أعلم أن مكانها سيكون محفوظاً لحين إنجابها، لذلك أدوّن هنا وهناك للتنفيس لا أكثر، فالتدوين الحر يشعرني بالراحة الداخلية، فأغلب مشكلاتي قد تحل بنوبة جنون تعتريني، فأكتب ما أشعر به وينتهي كل شيء.. هذا كل ما في الأمر. وإن قال أحدهم: قد تتقاضين مقابلاً إن أردتِ، فأقول: وهل فلذات الروحِ توزنُ بالذهب؟

وبالرجوع إلى كتابي الذي يريدونني أن أضعه، ضعوا أنتم في بالكم، جِنّيّ الكتابة أو شيطانه كما يقول الشعراء، لا يأتيني إلا ذات خديعة، أي حين لا أكون قادرة على الكتابة لأني لا أحمل ورقة أو قلم مثلاً، أو عندما أبدأ بغسل الأطباق، أو وأنا مستلقية على كرسي طبيب الأسنان، وبعدها تريدونني أن أضعَ كتاباً!

اعلموا أن الكتابة فعلُ اقتناصٍ للفرص، في لحظة تجلي، ورفع للحُجب، لا يمكن استجداء هذا الفعل بالقوة.. فصديقتي مثلاً، قد طلبت مني أكثر من عشرين مرة أن أكتب شيئاً عن صداقتنا، فلم أفعل بعد، فأنا لست تحت تصرف نفسي في هذا الأمر. 

وفي الختام، أدعوكَ لأن تكون مميزاً، يكفينا تقليداً واجتراراً، يكفينا اتباعاً لسنن المستهلكين المبتذلين.. ودعوا إبداعكم يظهر في المكان الصحيح، فليس كلّ من حمل قلماً يجيد الكتابة، ولا كل من يتقن الكتابة عليه أن يكتب ويضع كتاباً، وليس من الضروري أن تكون كاتباً لتصبحَ مشهوراً.. فابحث واسبر جهدك في أن تجد ما يليق باسمك كنوعٍ من أنواعِ التجديد، فيقترن به وبالتاريخ معاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.