شعار قسم مدونات

جرعة زائدة من المشاعر تقتل صاحبها

blogs - love
كم من آباءٍ أضاعوا أبنائهم فقط لأنَّهم أحبوهم أكثر من اللازم، وكم من الآباء دمروا أبناءهم فقط لأنَّهم خافوا عليهم أكثر من اللازم، وكم من أشخاصٍ خسروا أصدقاءهم فقط لأنَّهم ركَّزوا على خطأٍ بدر منهم أكثر من اللازم.

إنَّ مشاعرنا التي نعيشها يومياً كالدواء تشفي إذا استخدمت بالشكل المعقول، وتقتل أو تؤذي إذا زادت عن حدها.

إنَّ الكثير ممَّن وقعوا في الحبِّ وسيطر عليهم لدرجة الجنون، أضاعوا حياتهم وكانوا ضحايا مشاعرهم، لأنَّهم ما ضبطوا هذا الشعور ضمن حدوده الطبيعية.

إنَّنا نقضي معظم وقتنا في التواصل مع الناس، إذ تعدُّ حياتنا مجموعة من العلاقات مع من حولنا، وهذه العلاقات هي صميم حياة الإنسان، فليس للإنسان أن يعيش بمعزلٍ عن الأخرين فهو بحاجة لعلاقته مع أبويه وبحاجة لتواصله مع أبنائه وزوجته، هو بحاجة لعلاقته مع الخباز والخياط والطحان.. وكلِّ من حوله، هو بأمسِّ الحاجة للاتصال مع ربِّه.

إنَّ جميع علاقتنا تتخللها المشاعر فلا توجد علاقة تخلوا من مشاعر سلبيةٍ أكانت أم إيجابيةٍ، ونحن نعلم جيداَ أنَّه لا معنى للعلاقات بدون وجود المشاعر، ونستطيع أن نصف العلاقات التي تخلوا من المشاعر على أنَّها علاقات تعيش في غرفة الإنعاش، فالمشاعر هي التي تعطي الرغبة في الاستمرار أو التوقف، هي قوة الدفع التي تمدُّ الإنسان بالطاقة لكي يستمر ويعمل بحيوية ونشاط، أو قوة الكبح التي تمدُّ الإنسان بالطاقة للتوقف والتراجع.

لولا ما غرَسَه الله- تعالى- في قلْب الأمِّ من مشاعر الرحمة والمحبَّة والحنان على ولدِها لقتلتْه مِن شدَّة ما تجد من ألَم حمْله ومخاضِه وولادته، وما تُعانيه من جوعٍ وتعَبٍ لأجْلِ رَضاعته والقيامِ عليه، إنَّ هذه المشاعر التي فطرها الله في قلب الأم هي الدافع الدائم الذي يجعل الأم تعاني ما تعاني لتربي ابنها وتحافظ عليه.

كيف لهذه المشاعر أن تصبحَ مضرةً إذا تجاوزت حدها الطبيعي؟
كيف لنا أن نحافظ على مشاعرنا ضمن خط الفائدة؟
كيف لنا أن نتحكم بجرعة المشاعر التي تسري في شرايينا ونبقيها تحت السيطرة؟
وهل المشاعر تخضع لإرادتنا أم أنها خارجةٌ عنها؟

إنَّ المشاعر تكبر وتصغر كالنار تهيج عندما نغذِّيها بالوقود وتخبو عندما نتركها بدونه.
إنَّ مشاعرنا تتغذى على الأفكار التي تجول في خاطرنا فهي تستعر حينما نركز على الأفكار التي تغذيها وتخبو حينما نبعد هذه الأفكار عن ساحة تفكيرنا. إنَّ عملية التفكير عمليةٌ تخضع للعقل الواعي الذي نسيطر عليه، وإنَّ دماغنا البشري بحرٌ من الأفكار المخزنة على شكل صور ومواقف وأحداث، تطفو على السطح الأفكار التي نركز عليها ونجلبها لحضرة التفكير، وتبقى في اللاوعي الأفكار التي نهملها ولا نركز عليها.

إنَّ الأفكار، التي تُشغل دماغنا بالتفكير، تصاحبها المشاعر الخاصة بها، إذ أنَّه لكل موقفٍ شعوره المرتبط به، وحين يبدأ العقل بالتفكير تبدأ المشاعر المصاحبة تكبر وتكبر حتى تسيطر على صاحبها وتتملكه. إنَّما نفكر به تحت إرادتنا أما المشاعر المصاحبة فليست كذلك.

إذاً السيطرة على المشاعر متوقفةٌ على قدرتنا في إحضار الأفكار المناسبة للسطح واستبعاد الأفكار غير المناسبة وابقائها بعيدةً عن التفكير، وهذه العملية التي تعدُّ في دائرة إرادتنا عمليةٌ ليست سهلةً، لكنَّنا قادرون على أن نمتلكها. إنَّها مهارةٌ تحتاج لتدريبٍ ومتابعةٍ حتى نتقنها ونصبح قادرين على التَّحكُّم بتفكيرنا والتَّركيز على ما نريد من خلال استعراض الأفكار وانتقاء ما يناسب الموقف لنبدأ بالتفكير به وبالتالي نبقي مشاعرنا تحت سيطرتنا.

إنَّ شعورك بالضيق من إنسانٍ لموقفٍ أزعجك منه، شعورٌ ليس بيدك، وحتى تسيطر على هذا الشعور وتبقيه ضمن حدوده الطبيعية، ولكي لا يتفاقم ويتحول إلى كرهٍ ينبغي أن تسارع لصرف هذا الموقف عن منصة التفكير واستحضار أفكاراً ومواقفَ إيجابيةً لهذا الشخص لتفكر بها.
إذا أحسنت صرف تفكيرك عن هذا الموقف السلبي واستبدلته بمواقفَ إيجابيةٍ تكون قد سيطرت على مشاعرك وكسبت هذا الشخص الذي كدت أن تخسره لموقفٍ بغيضٍ.

إنَّ الكثير ممَّن وقعوا في الحبِّ وسيطر عليهم لدرجة الجنون، أضاعوا حياتهم وكانوا ضحايا مشاعرهم، لأنَّهم ما ضبطوا هذا الشعور ضمن حدوده الطبيعية، بل أجَّجوا النار وصبوا فوقها الوقود، حتى التهمتهم نار الأشواق.

ينبغي دائماً أن نحبَّ دون أن يخرج هذا الشعور عن إطاره المفيد الذي ما إن تمَّ تجاوزه يصبح بعدهُ سمَّاً يقتل صاحبه وهو يتلمَّظ طعمه الحلو.

إنَّهم أحبوا وهذا طبيعي لكنهم عاشوا لهذا الحب، فأطلقوا العنان لتفكيرهم وخيالهم وغذِّوا شعورهم بكلِّ فكرةٍ وخاطرٍ، وتخيلوا وأنشدوا الشعر وسمعوا الأغاني حتى اشتعلت النيران في روما وخرجت عن السيطرة، وهذا الشيء متاحٌ للجميع فليس أسهل من أن تطلق العنان لخيالك حتى يأخذك إلى بلاد ما وراء النجوم، وهذا الخيال الذي لا حدود له يجلب شعوراً لا حدود له، فيشتعل العقل العاطفي الذي لا يخضع لسيطرتنا المباشرة فيؤيِّد هذا الشعور وينميه، حينها يخبوا صوت العقل الواعي (التحليلي) ويعلوا صوت العقل العاطفي (غير الواعي) فيقود السفينة الهوى ويساق الوعي إلى السجن، حتى تتوه السفينة فتغرق أو تصطدم لتصحو من جديد.

وإذا تحدثنا هنا عن شعور "الحبِّ" فلا نفرق بين حبِّ الأمِّ لابنها أو حبِّ الزوجةِ لزوجها أو حبِّ العاشقِ لمعشوقه، بغضِّ النظر عن تصنيفه مشروعاً أكان أم غير مشروع، فالحبُّ هنا واحدٌ من حيث الطبيعة وله التأثير ذاته ويكون قاتلاً بالمعنى المجازي إذا خرج عن حدود السيطرة وتجاوز المعقول.

فإنَّ حبَّ الأمِّ الفطري لابنها يصبح خطراً عليها ما لم يبقَ ضمن إطاره السليم، فالأمُّ حينما تحبًّ ابنها شغفاً لن تتحمل أن يصاب ابنها بمكروهٍ، وهذا واردٌ في حياتنا، فتبدأ تُفرِطُ في حمايته، ويصبح الحبُّ بعد هذا الحدِّ حائلاً دون اتخاذ الإجراءات التربوية السليمة كالتأديب على الخطأ أو الحرمان أو القسوة لتحسين التربية، ويصبح الابن مدلَّلاً لا يُرفض له طلبٌ، فتفسد الأمُّ ابنها وهي لا تدري وتشقى بشقائه. لذلك ينبغي دائماً أن نحبَّ دون أن يخرج هذا الشعور عن إطاره المفيد الذي ما إن تمَّ تجاوزه يصبح بعدهُ سمَّاً يقتل صاحبه وهو يتلمَّظ طعمه الحلو.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.