"أوبنهايمر".. أبو القنبلة النووية الذي احترق بنارها

فيلم أوبنهايمر Oppenheimer
إعلان فيلم أوبنهايمر (الجزيرة)

حقق فيلم "أوبنهايمر" للمخرج كريستوفر نولان رقما قياسيا جديدا للتقييم على المستويين الجماهيري والنقدي على موقع "الطماطم الفاسدة" (Rotten Tomatoes) المتخصص، إذ وصل إلى نسبة 94%، وهو ما لم يصل إليه فيلم في السابق.

ولم يكن حصول فيلم لمخرج بحجم نولان على مثل هذا التقييم غريبا في عالم السينما، لما عرف عنه من نجاحات منذ انطلق في سماء هوليود قادما من لندن، ليصنع عالما خاصا من الخيال، ويقدم أفلاما تجمع بين الخيال الجامح والمهارة السينمائية والتقنية، وتثير الأسئلة دائما حول الهوية في إطار ترفيهي، مثل "فارس الظلام" (The Dark Knight) 2008، و"زرع الأفكار" (Inception) 2010، و"بين النجوم"  (Interstellar) 2014.

كريستوفر نولان الذي رُشح لـ26 جائزة وحصل على 7 جوائز منها؛ قرر منح جمهوره إجازة إجبارية من الترفيه الخالص، ليتصدى في فيلمه الجديد لواحدة من أهم محطات البشرية وأكثرها جدية، حيث يحكي بطريقته المميزة السيرة الذاتية لصانع القنبلة النووية بما احتوته من دراما عنيفة وتناقضات تفضي إلى ضحك كالبكاء.

لا يحكي الفيلم قصة مساهمة العالم "جي روبرت أوبنهايمر" في صناعة القنبلة النووية وإشرافه على مشروع مانهاتن لصناعتها فقط، لكنه يتطرق أيضا إلى ذلك الصراع الذي عاشه بين العلم والأخلاق خلال حياته كلها، والمفارقة التي جعلت عالما عبقريا مثله يقع في رهان فاوست الشهير، فيبيع روحه وعقله لشيطان صناعة القنبلة النووية، ويقضي سنواته الباقية محاولا التكفير عما فعله، فتحاكمه الدولة الأميركية على نواياه.

استخدم المخرج لعبة الزمن المفضلة في أفلامه، حيث يتحرك في المستقبل، ثم يعود إلى الماضي، ويتوقف قليلا في الحاضر، ويكرر اللعبة بشكل دائري.

وفي "أوبنهايمر" يرسم المخرج جدولا زمنيا، ينطلق من قاعة المحكمة التي يحاكم فيها "روبرت أوبنهايمر" إلى معمله، ثم إلى "لوس ألاموس" حيث تم تنفيذ مشروع مانهاتن لصناعة القنبلة النووية، ولم يتجاهل نولان منزل العالم الأميركي ذي الأصول الألمانية، وأماكنه المفضلة، لكنه كان يعود دائما للمحكمة التي جردته من كل امتيازاته بعد أن تسلمت القيادة العسكرية القنبلتين النوويتين وألقتهما على "هيروشيما وناكازاكي" في اليابان.

عرض خاص

حقق الفيلم الذي اجتاح دور العرض في العالم مساء 21 يوليو/تموز الجاري ما يقرب من 150 مليون دولار خلال عطلة نهاية الأسبوع، وذلك رغم اختلافه عن أغلب إنتاجات هوليود.

ويحتاج "أوبنهايمر" إلى ذهن يقظ، فالصراع الذي اعتاده المشاهد في أفلام نولان مثل تصادم سيارات أو إطلاق نار أو مباراة في فنون القتال الحرة هو صراع ذهني ووجداني، وفي هذا العمل يدور على عدة محاور، أولها وجدان روبرت أوبنهايمر(جسده كيليان ميرفي) نفسه الحائر بين شغف العلم والغطرسة التي تصاحب العالم حين يكون صاحب نفس ضعيفة، والحائر أيضا بين قدراته التي تتجاوز محيطه والمحيط المتواضع الذي يسيطر على مقدراته.

وقدم العمل فريق تنفيذ المشروع الذي أدى في النهاية إلى إنتاج أول سلاح نووي في العالم، كما قدم فريقا من المباحث الفدرالية الأميركية، وعددا من أعضاء الكونغرس الأميركي الذي كان يمثل" المكاراثية"، والتي كانت تمثل اتجاها داخل النظام في ذلك الحين يهدف إلى تصفية أي فرد يحمل أفكارا يسارية في المجتمع الأميركي، وقد أدت إلى إهدار حياة الكثير من المبدعين والعلماء إما بالطرد من العمل أو العزل المجتمعي إذا كان فنانا حرا.

وحمل الجنرال ليسلي غراوس -الذي لعب دوره بشكل رائع وجاف تماما الممثل مات ديمون- عرضه الخاص جدا لأوبنهايمر، وبدا الرجل الذي لم تعرف عنه أية قدرات إدارية ولم يحصل على جائزة نوبل؛ كأنه كان ينتظر العرض لإدارة مشروع إنتاج القنبلة، بما يعنيه ذلك من تحوله إلى إداري أو سياسي عوضا عن كونه عالما كبيرا.

ولم يكن مصير روبرت أوبنهايمر -الذي أدار المشروع وحوّل التصور النظري للقنبلة إلى حقيقة أدت إلى تغيير حاد في موازين القوى العسكرية في العالم، كما غيرت تماما شكل العالم إلى الأبد- مختلفا عن مصير ضحايا المكارثية.

وحوكم أوبنهايمر، وتم سحب صلاحياته، بعد أن تم التحقيق معه حول اتجاهاته اليسارية وفكر عدد من أقاربه الذين كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي الأميركي حينها وهم صديقته وزوجته وشقيقه.

وظل "أبو القنبلة النووية" مستبعدا ومعزولا ومشكوكا في ولائه حتى أعلن الرئيس جون كنيدي تكريمه ورد اعتباره، لكنه -أي كينيدي- اغتيل، فكرمه بدلا منه الرئيس جونسون.

ظلال ماليك وصراع الوجوه

ثمة ظلال واضحة للمخرج الأميركي من أصول لبنانية تيرانس ماليك -صاحب "شجرة الحياة" (The Tree of Life) و"خيط أحمر رفيع" (The Thin Red Line)- في "أوبنهايمر"، إذ يستعرض نولان تلك القدرات المميزة لخيال روبرت أوبنهايمر الشاب، فيعرض شريطا من الصور السماوية الرائعة على طريقة ماليك المعروفة، حيث تتراص النجوم المضيئة في سماء مظلمة، لكن الوجوه تسيطر على ما بقي من الفيلم باستثناء استعراض الصحراء في نيو مكسيكو؛ حيث أقيم مشروع مانهاتن في منطقة "لوس ألاموس".

ولم يحدث أن قدم أي من الممثلين مشهدا دراميا ذا تعبير مسرحي أو انفعال مبالغ فيه، وعلى العكس تماما، فأغلب الأدوار إما لعسكر يقومون بأدوارهم بخشونة وانضباط، وإما لعلماء وأساتذة جامعيين في مجالات الفيزياء والكيمياء والرياضيات، يسيطر عليهم السلوك المتحفظ دائما كما يليق بأعضاء هيئة تدريس في أربعينيات القرن الماضي.

وهنا تظهر رؤية نولان الذي قدم فيلما يخاطب عقل المشاهد ويطلب منه التركيز الشديد لأن اللعبة الحقيقية في العقل وفي البحث عما وراء دراما لو حاول السيناريست تأليفها ما جاءت فاقعة لهذا الحد، لكنها مكتوبة على لوح القدر، ليعيشها أوبنهايمر.

ومن وجه روبرت أوبنهايمر المشبع بالغموض إلى عينيه اللتين لا تفصحان عن شيء حتى في أسوأ الظروف، إلى وجوه زملائه، وباستثناء صديقته التي انتحرت بعد أن هجرها، وزوجته التي أدمنت الكحول؛ لم يعبر كل وجه إلا في حدود ما تسمح به مهنة صاحبه، لا إنسانيته.

ولم يقدم الفيلم اعتذارا عن القنبلة النووية، ولم يعرض ولو مشهدا واحدا لضحايا انفجاري هيروشيما وناكازاكي، وإنما انشغل بعرض حياة أوبنهايمر في مختلف جوانبها رغم أن الأجساد التي احترقت هي "دم على يديه" كما قال في حواره بالفيلم، وقدم الفيلم شابا عبقريا، ورجلا شهوانيا، يصحو ضميره فجأة بعد احتراق ما يفوق 200 ألف إنسان بفعل سلاح أشرف على صناعته.

وقدم العمل لحظة التحول التي استيقظ فيها ضمير أوبنهايمر في قاعة كبرى للاحتفال بنجاحه، إذ اقتربت الكاميرا من عينيه المصمتتين اللتين تنظران خارج الكادر، لننتقل إلى زملاء وجمهور وتلاميذ له يصفقون له ولنجاحه، لكن تلك الوجوه تظهر له وكأنها تذوب، وتتساقط الأجساد وتحترق، ليبدأ الرحلة العكسية ويتأكد المشاهد أنه قضى نحو نصف الفيلم لاهثا لصنع القنبلة النووية، والنصف الآخر لاهثا للاعتذار عما اقترفته يداه.

ما وراء الدراما

قدم صناع العمل ما يزيد على 3 ساعات في محاولة لتقديم ما وراء الدراما التي عاشها روبرت أوبنهايمر في ظل دراما الحرب العالمية الثانية، والمكارثية، وصراع عاشه علماء كبار تم تجنيدهم لصالح دولة قررت إنهاء الحرب بأصعب الطرق.

وحاولت الكاميرا النفاذ عبر الوجوه إلى العقول النيرة الواقعة بين مطرقة العلم وسندان الأخلاق، والتي تتوهم أن لديها القدرة على اتخاذ القرار رغم وضوح مركز السلطة الذي استخدم الجميع لتحقيق أهدافه، ثم بدأ يحاكم كل شخص على نواياه التي لم تتحقق وعلى ماضيه الباهت عديم الأثر.

ولم يكن الحوار الذي قام بدور البطولة في الفيلم إلا سياحة في تلك العقول التي لم تكتف بشرح كيفية عمل القنبلة النووية ولكنها شرحت كيفية عمل الوجدان والعقل الذي أفاق حين استنكر عليه زميله ارتداءه زيا ليس لعالم أن يرتديه قائلا "ما هذه البدلة العسكرية السخيفة التي ترتديها؟! أنت عالم.. ارتد ملابس تليق بك"، فيسارع أوبنهايمر إلى تغيير ملابسه بعد أن كان فرحا بإدارة مشروع عسكري.

وجاء شريط الصوت مميزا بشكل كبير، حيث دفع بحالات التوتر إلى ذروتها منذ اللقطة الأولى إذ يضع أوبنهايمر يديه على أذنيه، بينما يصدر صخب شديد، يتضح أنه نتيجة غضب الحاضرين في محاكمته من لجنة الكونغرس الذين يضربون بأقدامهم في الأرضية الخشبية، وقد بدا للوهلة الأولى كأن الصخب يصدر من رأس العالم المحاصر بين محكمة ضميره ومحكمة من خسر ضميره من أجلهم.

وقدم كيليان ميرفي مؤهلاته للمنافسة على جائزة الأوسكار في حفل العام القادم، بينما ظهر رامي مالك ذو الأصول المصرية صاحب أوسكار أفضل ممثل عام 2018 عن دوره في فيلم "بوهيميان رابسودي" (Bohemian Rhapsody)؛ في عدة مشاهد ضمن مجموعة كبيرة من النجوم الذين أدركوا أهمية العمل، فقبلوا بتقديم أدوار صغيرة.

ويؤكد الفيلم -الذي يصنف تاريخيا- أن بعض المقولات لا تفقد صلاحيتها مهما مر عليها من زمن، ومنها مقولة "التاريخ يكتبه المنتصرون"؛ وها هو المنتصر يكتب التاريخ معتذرا عن محاكمة أوبنهايمر، وعن العذاب الذي أصاب ضميره، فدفع به إلى العمل على الحد من استخدام الأسلحة النووية في الحرب.

المصدر : الجزيرة