بين غزة وأوكلاهوما.. "قتلة زهرة القمر" لا يتوقفون عن إبادة أصحاب الأرض

Killers of the Flower Moon
فيلم قتلة زهرة القمر يحكي قصة جريمة الإبادة الجماعية للسكان الأصليين في أميركا (الجزيرة)

لعبت الصدفة دورها في تزامن إطلاق العرض التجاري لفيلم "قتلة زهرة القمر" (Killers of the Flower Moon) للمخرج مارتن سكورسيزي مع جرائم الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي أمام أعين العالم حاليا ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وبدعم كامل من الولايات المتحدة الأميركية، ذلك أن موضوع الفيلم الذي تم تأجيل عرضه عامين كاملين وأعيد بناؤه أكثر من مرة، يستعرض جزءا صغيرا جدا من الإبادة الجماعية التي مارسها الأميركيون ضد السكان الأصليين لأرض أميركا.

وإذا كان "المبدع الأميركي العجوز صاحب الضمير الشاب" مارتن سكورسيزي قد طرق في أغلب أفلامه تلك المفارقة المدهشة بين رفع المسؤولين الأميركيين شعارات أخلاقية في العلن، مقابل تعاونهم، بل وصعودهم على أكتاف العصابات عبر تلقي الدعم المادي منها سرا وممارسة الاغتيالات والبلطجة لصالحها في أفلام مثل "عصابات نيويورك" (Gangs of New York) 2002 و"الرجل الأيرلندي" (The Irishman) 2019، فإن فيلمه الجديد يرصد قصة حقيقية لشخص يقبع على رأس السلطة في بلدة أميركية بولاية أوكلاهوما نهارا، بينما يمارس الإجرام والتصفية الجسدية للسكان الأصليين ليلا، طمعا في ثروتهم.

تتجسد عبقرية المصادفة في التشابه بين دولتين قامتا على فكرة إحلال شعب مكان شعب آخر، واستخدام أكثر الطرق وحشية في تنفيذ ذلك الإحلال، إحداهما قامت منذ أكثر من قرنين، والثانية قامت منذ أكثر من 70 عاما، أما الدرس الأهم فهو أن التقدم العلمي ساهم في الارتقاء بالآلات، لكنه دفع بالبشر إلى أسفل السلم الأخلاقي.

تاريخ ملوث بالغدر

قبيلة "أوسيدج" (Osage Nation) هي واحدة من قبائل السكان الأصليين لأرض أميركا، تم اكتشاف النفط في أراضيها بولاية أوكلاهوما مع مطلع القرن الـ20، وخلال فترة قصيرة تحولت إلى واحدة من أغنى البلدات. اجتذبت ثروة هؤلاء الأميركيين الأصليين على الفور المهاجرين المتطفلين البيض، الذين تلاعبوا وابتزوا وسرقوا أكبر قدر ممكن من أموال "الأوسيدج" قبل أن يقرروا قتل الجميع.

وعبر قصة رومانسية بين إرنست يوركهارت (يجسد دوره ليوناردو دي كابريو) ومولي كايل، التي أصبحت مولي يوركهات بعد زواجها منه، (تجسد دورها ليلي غلادستون)، يحكي فيلم "قتلة زهرة القمر" قصة جريمة تصفية عرقية تجمع بين الخيانة في أقبح صورها والحب في أرقى حالاته.

الفيلم من بطولة روبرت دي نيرو وجيسي بليمونز، ومن إخراج مارتن سكورسيزي، الحائز على جائزة الأوسكار، والسيناريو من تأليف إريك روث ومارتن سكورسيزي.

اقتبس الفيلم عن كتاب بالاسم نفسه صدر عام 2017 للصحفي الأميركي ديفيد غران، ويوثق لمرحلة إرهاب وتصفية السكان الأصليين في العشرينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي قتل خلالها العديد من أعضاء قبيلة أوسيدج في أوكلاهوما بسبب ثروتهم النفطية، وهي جرائم قتل بقيت عالقة بدون الوصول لقاتل محدد، ويعرض الكتاب تفاصيل عمليات القتل وتحقيقات المسؤولين فيها.

وكانت أوسيدج، مثل العديد من قبائل السكان الأصليين في أميركا الشمالية، قد دفعت للهجرة من ميسوري باتجاه الغرب من قبل المستعمرين البيض، حتى استقرت أخيرا في منطقة صخرية بولاية أوكلاهوما.

كان الأصليون يأملون أن تمنع التربة الفقيرة، غير الصالحة للزراعة، القادمين الجدد البيض من إزاحتهم مرة أخرى، ولكن عندما تم اكتشاف النفط في الأرض الجديدة، أصبحت القبيلة ثرية للغاية لأنها امتلكت حقوق رأس المال في النفط والتي لا يمكن بيعها، بل تورث فقط.

ونتيجة لذلك، ابتكر المهاجر الأبيض طرقا لسرقة أموال القبيلة، وعندما أخفقت عمليات الاحتيال، لجؤوا إلى القتل. وقد حقق الكتاب مبيعات كبيرة جدا، واحتل قمة قائمة "الأكثر مبيعا" لفترة طويلة منذ صدوره عام 2017.

فيلم للتأمل

يقدم سكورسيزي فيلمه الجديد، كما لو كان حكيما يعيد تأمل ومراجعة قرارات سابقة اتخذت فيما مضى من سنوات، ويحرص على ذلك الإيقاع البطيء للمشاهد أيضا، ليمنحه القدرة على الكشف عن تفاصيل جديدة في مشاهد قديمة لشعب الأوسيدج، الذي يقفز فرحا باكتشاف النفط.

ثم يستعرض الفيلم التحولات التي طرأت على حياة أبناء القبيلة بدءا من الذهب الذي أقبلت النساء على شرائه وحتى السيارات الفاخرة بمعيار بدايات القرن الماضي، لكنهم يحتفظون بتقاليدهم وعباداتهم وعقيدتهم كما هي.

وبين مشاهد توثق لحياة السكان الأصليين الذين تلقوا منحة من باطن الأرض، يصل على قطار بخاري شاب ذو وجه وسيم شديد الجدية إلى محطة القطار، ليستعرض سكورسيزي، بعين رجل يتوسط عمره بداية القرن وما بعد نهايته، مشاهد المساحات العامة في بلدة صغيرة بولاية أوكلاهوما.

ويؤكد سكورسيزي من البداية أن ما يحكيه ليس خيالا صرفا، فيستخدم صورا فوتوغرافية لأشخاص سجل التاريخ الاجتماعي أنهم عاشوا في تلك المرحلة، وحين ينتقل إلى مرحلة انطلاق جحيم التوحش والقتل، لا يكتفي صانع العمل بذكر الجرائم، لكنه يستعرض بإيقاع سريع تلك الجرائم بالتفصيل، ومن ثم يعرض صور الضحايا بالأبيض والأسود.

وفي مشاهد دافئة يستعرض العمل تقاليد قبيلة الأوسيدج للاحتفال بمولد طفل، واختيار اسم له، وكذلك يؤكد على عمق ارتباط السكان الأصليين بالطبيعة ويعرض قصصهم الدينية حول زهرة القمر التي تنمو في التلال المحيطة بمنطقة إقامتهم، ويربطون جمالها بنظرة الخالق لها.

انتهازية مقبولة

وقد قدمت الممثلة ليلي غلادستون أداء ناعما رصينا، يليق بامرأة ثرية تنتمي إلى قبيلة تتوفر فيها الحكمة والمعرفة العميقة بالحياة وبالنفس البشرية. وفي دور مولي يركهارت، استطاعت غلادستون أن تستخدم أصعب أدوات الممثل، وهي العيون التي أرسلت من خلالها طاقة كامنة من الطمأنينة والاستيعاب لرجل ينتمي إلى عرق مختلف، ويطمع في أموالها، ومن ثم أحبته رغم مصارحته لها أن جزءا من أسباب حبه لها هو ثراؤها.

وقدم الفيلم قصة فريدة من نوعها، إذ يعيش المهاجرون البيض على رجاء نظرة رضا من أصحاب الأرض الأصليين الذين يملكون حقوق النفط، ويعيشون حياة الثراء الفاحش، ولكنهم يملكون "قلوبا كبيرة" كما وصفهم العم "وليام هيل" (الممثل روبرت دي نيرو) الذي يقدم دور الشرير القاتل بكفاءة لا تقل عن أدوار البطولة لصالح الخير في أعماله السابقة.

العم الشرير (دي نيرو) استقبل ابن شقيقه (دي كابريو) القادم من الحرب العالمية وقد أصيب في معدته بشكل لا يسمح له بعمل يحتاج إلى جهد بدني كبير، يتفق الاثنان على ذلك ويصلان في النهاية إلى قناعة مؤداها أن الشاب المصاب سوف يعمل سائقا خاصا، وينصب شباكه حول السيدة الثرية (ليلي غلادستون) أو "مولي" ابنة العائلة التي تنتمي لقبيلة أوسيدج.

لم يكن اتفاق العم مع ابن شقيقه إلا جزءا من خطة قام بها العنصريون البيض للسطو على ثروة قبيلة أوسيدج عبر الزواج من النساء ومن ثم التخلص منهن وتوريث الأبناء، إذ كانت حقوق النفط لا تباع ولا تشترى لكنها تورث فقط، ورغم وحشية المشهد، فإن تفاصيله لم يكشف عنها إلا من خلال كتاب ديفيد غران، الذي استمر في التحقيق حول القصة البشعة نحو عقد من الزمان.

شعر أبناء القبيلة بالمؤامرة، بعد تكرار حالات القتل، وتجاوز السلطة عن التحقيق في الجريمة، لذا قال زعيم القبيلة بعد قتل شقيقته مولي (ليلي غلادستون) إن "العدو هو المسؤول عن قتل أبنائنا وبناتنا، وهو يريدنا أن نموت جميعا، ونحن لن نمانع في ذلك، لكن سنأخذه معنا".

يستدعي مشهد الاتفاق بين العم وابن الأخ تلك المشاهد التقليدية في البيوت الفقيرة لامرأة تتفق مع ابنتها على استدراج عريس غني للزواج، رغبة من الاثنتين في تأمين مستقبل الأسرة، ومن ثم تقوم الأم بالبدء في تزيين الابنة، وهي لفتة عبقرية على بساطتها، قام بها دي نيرو؛ إذ خلع قبعة ابن أخيه، مؤكدا له أنه وسيم ويستطيع إيقاع السيدة الثرية في حبه.

دي نيرو أو" وليام هيل" هو نائب عمدة فيرفاكس، البلدة التابعة لولاية أوكلاهوما، والذي يمثل السلطة في البلدة ويرعى شؤون الجميع سواء أكانوا مهاجرين أو أصليين، وهو للمفارقة المجرم الحقيقي والمخطط لجرائم التصفية الجسدية للسكان الأصليين.

اكتشاف الضمير

رغم عمره الذي قارب الـ80 عاما، وأفلامه التي يتجاوز عددها 70 فيلما بين روائي طويل وتسجيلي وقصير، فإن سكورسيزي قدم للمرة الأولى فيلما يمكن أن ينتمي لأفلام "رعاة البقر" أو "الكاوبوي"، ورغم ذلك فإن ذلك الطابع المميز للنسخة الجديدة من المخضرم، والتي ظهرت مع فيلم "الرجل الأيرلندي" قد ميزه، إذ منحته حكمة السن حالة من التأمل انعكست على أفلامه.

"قتلة زهرة القمر" الذي يمتد لـ3 ساعات ونصف استحق الانتظار عامين، ليس للمتعة السينمائية الفائقة التي تميز أفلامه دائما، ولكن بسبب ذلك الخطاب العقلي الذي يدعو الضمير الأميركي لمراجعة نفسه، خاصة أن المسكوت عنه من جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها الأميركي والغربي المهاجر ضد السكان الأصليين لا يمكن إنكارها.

المصدر : الجزيرة + وكالات