"من القاهرة".. فيلم ينتصر للنساء في المدينة

يبدو الفيلم في العموم خطابيا شديد المباشرة في ما يتعلق بشخصياته وأفكارهن عن العالم، وتنحاز مخرجته إليهن في كل خطوة، وربما ترى نفسها جزءا منهن كما كانوا جزءا منها؛ يقفن جميعًا في مواجهة مجتمع -وفقًا لرؤية أصحابه- يرفض وجودهن وأحلامهن من دون سياق محدد يطرحه الفيلم.

فيلم من القاهرة للمخرجة هالة جلال
ملصق فيلم من القاهرة للمخرجة هالة جلال (مواقع التواصل)

هل يمكن صناعة عمل فني تحمل كافة شخصياته التوجه والترقب والحلم ذاته على اختلاف مشارب حياتهم الشخصية، فيولد شعورا محددا يصبح المحرك لكل شيء؟ على ما يبدو يحدث ذلك في أوقات شديدة الخصوصية، ومن بينها العمل الفني الذي نحن بصدد تحليله.

ثمة رابط مباشر وغير مباشر بين بطلات يظهرن تباعا على مدار عرض فيلم "من القاهرة" الذي عُرض حديثا في "أيام القاهرة السينمائي" بوصفهن جميعا نساء غير مرحب بهن في القاهرة، وفقا لرواية المخرجة والكاتبة هالة جلال صاحبة الفيلم.

يستكشف الباحث والأكاديمي البريطاني رافاييل ماكورماك في كتابه "منتصف الليل في القاهرة" المشهد خلال المساء في العاصمة المصرية في عشرينيات القرن الماضي، الذي كان يتسم بنشاط كبير للسينما والمسارح والموسيقى، ويتناول ماكورماك في كتابه قصة منيرة المهدية وروز اليوسف اللتين ستصبحان في طي النسيان عقب ما حدث عام 1952 من انحسار دور النساء في المشهد الفني المصري، حسب تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" (The Wall Street Journal).

يتتبع فيلم "من القاهرة" حياة فتاتين تعيشان بمفردهما وتعملان في الفن تحديدًا دون غيره، ربما كان ذلك تأكيدا على عكس ما أحزن صاحب كتاب "منتصف الليل في القاهرة". وفى هذه التجربة تقدم اختيارات شخصية مختلفة عن السائد؛ الأولى "هبة خليفة" فنانة تشكيلية وأم لطفلة، ومنفصلة عن زوجها، ونتعرف على حياتها المهنية والإنسانية. والثانية "آية يوسف" مخرجة أفلام تسجيلية تنفذ فيلمها الأول، وتلعب إحدى ألعاب القوى، والمشروعات الفنية للفتاتين معنية بحواديت النساء.

سنوات من العمل

تم تعديل نسخة الفيلم على مدار الأعوام الخمسة التي استغرقتها صناعته في غرفة المونتاج عدة مرات حتى وصلت للحالة التي نالت رضى الجميع، وربما بفيض من مشاعر الحب بين بطلاته المصورة هبة والمخرجة آية وصانعته للحد الذي خرجت فيه قصصهن جميعا كقصة واحدة يحملها الخوف كشعور أصيل ومحرك للنساء أمثالهن في المجتمع ضمن أي حركة مهما كانت بساطتها.

تستعرض المخرجة هالة جلال عبر الفيلم مدينة القاهرة من خلال نسائها في محاولة لأن تسكت خوفها الخاص منها، وتتابع فتاتين تعيشان في العاصمة الملوثة بالقسوة والنفور والتحرش، والاستعداد لقبول المرأة فقط في وضع المفعول به. الفيلم يمكن تصنيفه تسجيليا، لكن الأقرب للدقة أنه يسرد قصصهن بوصفه فيلما روائيا ممزوجا بالأغاني المختلفة التي تصنع منه حياة أشبه بأسطورة لأصحابها.

سيرة ذاتية

لماذا يمكننا أن نعد الفيلم أقرب للسيرة الذاتية لأصحابه؟ ربما لأنه كثيرا ما احتكم إلى تقلبات ومزاجية صناعه على حساب الالتزام العملي؛ مثلا تعطل تصويره عدة مرات بسبب أزمات شخصية لصانعته، وعملت على المونتاج الخاص به إحدى بطلاته، وهكذا تحرك العمل بسعي بطلاته للبوح بقصصهن الشخصية أمام الجميع، ربما سعيا للانتصار لها ولهن.

في عام 2004، قدمت المخرجة ذاتها فيلمها الأول "دردشة نسائية"، الذي كان يحمل أيضا خطابا ينتصر للنساء وحياتهن شديدة التعقيد في مجتمعاتنا ربما أكثر من غيرها، يدرس هذا الفيلم تطور المجتمع المصري من أوائل القرن العشرين حتى اليوم، ويركز على وضع المرأة كما عاشته أجيال عديدة داخل الأسرة نفسها، وتناقش النساء التغيرات بين الأجيال التي أثرت على الموضة والسياسة وكذلك دور المجتمع نحو المرأة بشكل عام، ثم قدمت فيلم "نقطة ومن أول السطر" قبل أن تخرج فيلمها الحالي.

المباشرة والخطابية

وحول سبب اختيارها البطلات، قالت المخرجة إن هبة خليفة البطلة الأولى لديها معرض شهير طاف العالم، وحصلت من خلاله على جوائز، وهو معرض تخلط لوحاته بين الفن التشكيلى والفوتوغرافيا، وتحكي عن طريق اللوحات عن النساء والأمومة والخوف والاختيارات، وغيرها من قصص النساء التي حاولت رصدهن من خلال لوحاتها.

أما آية يوسف فحكايتها عن نساء تعرضن للعنف الأسرى، فمثلا تجد في الفيلم إحدى السيدات التي تعرضت للحرق عن طريق ماء النار، وهي تصحبهن في رحلة علاجية حتى يقمن بإعادة بناء حياتهن.

الفيلم بالكامل عن حواديت نساء، والصعوبات في حياتهن، وكيف يتعاملن مع مدينة القاهرة التي قد تكون غير مثالية لهؤلاء السيدات اللاتي يعملن في الفن، ومع ذلك يجدن طريقهن ويحققن أحلامهن ويعشن سعيدات.

رغم كل ذلك يبدو الفيلم في العموم خطابيا شديد المباشرة في ما يخص شخصياته وأفكارهن عن العالم، وتنحاز مخرجته إليهن في كل خطوة، وربما ترى نفسها جزءا منهن كما كانوا جزءا منها، ويقفن جميعا في مواجهة مجتمع -وفقا لرؤية أصحابه- يرفض وجودهن وأحلامهن دون سياق محدد يطرحه الفيلم.

فقط نشاهد نساء يتحدثن عن طموح يعقب صراع كبير مع الأهل والمجتمع الذي يحاول تنميطهن وأدلجتهن وفق معايير معروفة وخانقة، في مقابل مثابرتهن على تجاوز كل شيء واختيار شكل حياة جديد يناسب أحلامهن مهما كانت تلك العواقب ضاغطة.

لماذا لم تتطور مساحات شخصيات الفيلم على مدار 5 سنوات؟ لا نعلم، لماذا كل هذا الإصرار على المباشرة في طرح قضية فتيات يردن تضييق مساحة "صراعهن" مع المجتمع في كونهن يردن خلع الحجاب؟

هو تضييق مخل للأزمة التي تعانيها النساء في المدينة، سواء كن يرتدين الحجاب أو ينفلتن منه.

المصدر : الجزيرة