توثيق الانتصارات.. لوحات المعارك تاريخ مرئي للحروب

لوحة استسلام بريدا لدييغو فيلاسكيز (1435) تصور استسلام مدينة بريدا الهولندية أمام الجنرال أمبروجيو سبينولا (مواقع التواصل)

ربما لا يتوقع بعض الناس أن هناك ما يسمى بالفن العسكري أو فن الحروب، لكنه مصطلح قديم، فهو من أقدم أنواع الفنون بغض النظر عن أسلوبه ووسيطه.

يعدّ مشهد المعركة من أقدم أنواع الفنون في الحضارات المتقدمة، فقد حرص الحكام دائما على الاحتفال بانتصاراتهم لترهيب معارضيهم المحتملين.

وفي الوقت الذي كان مشهد المعركة مشهدا رئيسا، استغرق رسم جوانب الحرب الأخرى، لا سيما معاناة الضحايا والمدنيين، وقتا أطول بكثير للتطور، لأن الرسم في العصور القديمة كان فنا موجها من قبل السلطة، فكان الاهتمام الأكبر منصبًّا على تقديم انتصارات الحاكم من دون الاهتمام بمشاهد الحرب الأخرى التي تعدّ أكثر قسوة من مشاهد المعارك.

ومن أشهر مشاهد الحروب مشاهد المعارك البحرية وصور السفن والبحار. ومع تطور المعدات العسكرية وظهور الطائرات الحربية والدبابات، ظهرت مشاهد جديدة في الفنون العسكرية، لذا يمكن اعتبار لوحات الحروب دليلا بصريا على تطور معدات الحروب وطرق تعامل الحكام مع المعارك على مر التاريخ، بخاصة في الأزمنة القديمة قبل ظهور التصوير الفوتوغرافي.

تاريخ الفنون العسكرية

ظهرت لوحات ورسوم المعارك والموضوعات العسكرية منذ زمن قديم، وكانت موجودة في النقوش المصرية القديمة في الفترة البدائية (3500-3000 ق.م)، لكنها كانت نقوشا ورسوما غير مكتملة، تظهر أسرى الحرب وهم يُقتادون إلى مكان مجهول، وحيوانات برية تتغذى على جثث قتلى المعارك.

كما يظهر لوح نارمر الذي ينتمي للحقبة نفسها انتصارا عسكريا لكن بأسلوب أكثر رمزية؛ يصور اللوح توحيد مصر العليا ومصر السفلى تحت حكم الملك نارمر.

اللوح يصور توحيد مصر العليا ومصر السفلى تحت حكم الملك نارمر (مواقع التواصل)

في جانب من اللوح يظهر الملك مينا مرتديا التاج الأبيض الخاص بحاكم جنوب مصر، وفي الجانب الآخر يظهر مرتديا التاج الأحمر الخاص بحاكم مصر السفلى أو شمال مصر.

تظهر لوحات المعارك أيضا في الفنون الآشورية القديمة في شكل نقوش حجرية كبيرة تعرض مشاهد مفصلة للحملات العسكرية أو رحلات الصيد، لكن أهم لوحات الفن الأشوري هي النقوش التي تمجّد الملك وتظهر قوته وانتصاراته أثناء الحروب.

لم يبتعد الفن الروماني أيضا عن تلك الفكرة التي تمجد الحاكم وانتصاراته الحربية، بل رسخها لأن الحضارة الرومانية بالأساس حضارة استعمارية قائمة على الحروب. وتعدّ أعمدة النصر مثالا واضحا على فنون الحرب، وهي نصب تذكارية على شكل أعمدة.

يمثل كل عمود ذكرى انتصار في حرب أو معركة، بكامل تفاصيلها المنقوشة عليه، يرتكز العمود على قاعدة ويتوّج برمز النصر الذي يختلف تبعا للمعركة. ومن أشهر الأعمدة عمود الإسكندر الأكبر الذي يوجد حاليا في ساحة القصر في مدينة بطرسبورغ الروسية، وعمود تراجان الموجود في روما.

أعمدة النصر تعدّ مثالا واضحا على فنون الحرب (مواقع التواصل)

"الانتصار" لباولو أوتشيللو

تحتفل سلسلة لوحات باولو أوتشيللو المكونة من 3 لوحات بانتصار فلورنسا على قوات مدينة سيينا الإيطالية عام 1432. رسم أوتشيللو اللوحات بناء على طلب فلورنتين نيكولو دا تولينتينو زعيم المعركة، وتظهره اللوحة الأولى على حصان أبيض، محاطا بأعدائه قتلى على الأرض.

تظهر اللوحة توتر المعركة ببراعة، بسبب ازدحام المشهد في منتصف اللوحة وقطعه عمدا عند الأطراف، بشكل يجعل اللوحة تبدو قريبة من عين المشاهد، ليصبح كأنه جزء من المعركة، بخاصة مع الألوان القوية والمنظورات المتعددة التي تؤكد ديناميكية المشهد.

لوحة "الانتصار" تظهر فلورنتين نيكولو دا تولينتينو زعيم المعركة على حصان أبيض محاطا بأعدائه قتلى على الأرض (مواقع التواصل)

"استسلام بريدا" لدييغو فيلاسكيز

تصور لوحة استسلام بريدا لدييغو فيلاسكيز (1435) استسلام مدينة بريدا الهولندية أمام الجنرال أمبروجيو سبينولا. ويعدّ غزو بريدا أحد أعظم انتصارات الجيش الإسباني في حرب الـ80 عاما، وتعدّ اللوحة واحدة من أهم اللوحات التي تصور الانتصارات العسكرية.

تصور اللوحة حاكم بريدا وهو يسلّم مفاتيح المدينة إلى القائد الإسباني أمبروجيو سبينولا، وكانت اللوحة مخصصة للقاعة الكبرى في قصر الملك فيليب الرابع في مدينة بوين ريتيرو الإسبانية.

"الثالث من مايو/أيار" لفرانسيسكو غويا

على عكس أغلب اللوحات الحربية التي تخدم أغراضا تذكارية، فإن لوحة فرانسيسكو غويا "الثالث من مايو/أيار" التي رسمها عام 1814 تعدّ لوحة معاصرة تتجاوز فكرة المشاهد البانورامية وتصور مشهد أكثر صراحة للحرب.

تصور اللوحة مشهد قتل الجنود الإسبان على يد جنود نابليون عند غزوه مدينة ديل ريو سيكو الإسبانية، برؤية شخصية توضح براعته في تصوير الظل والضوء بعيدا عن الواقعية القديمة.

لوحة "الثالث من مايو/أيار" لفرانسيسكو غويا (مواقع التواصل)

 "البناء الناعم هاجس الحرب الأهلية" لسلفادور دالي

تمثل لوحة دالي انطباعا شخصيا للفنان عن الحرب الأهلية الإسبانية. بدأت تلك الحرب بسبب انتفاضة فرانسيسكو القومية ضد ديمقراطية الجمهورية الإسبانية، واستمرت من عام 1936 حتى 1939، وحوّلت إسبانيا إلى بحار من الدم.

تصور اللوحة جسما بشريا يتحول إلى زوائد وحشية في ذراعين وساقين يمزقان بعضهما، في إشارة إلى الحرب الدائرة في جسد واحد لإسبانيا.

لوحة "البناء الناعم هاجس الحرب الأهلية" لسلفادور دالي (مواقع التواصل)

تبدو اللوحة بالتأكيد مختلفة عن اللوحات السابقة، لأنها رسمت بعد ظهور التصوير الفوتوغرافي وأصبح من السهل التقاط صور كثيرة لمشاهد الحروب والمعارك، فذلك دفع الفنانين إلى البدء في التعبير عن انطباعاتهم وأفكارهم الذاتية عن الحروب بعيدا عن المشاهد الأيقونية الشهيرة للانتصارات في المعارك.

اللوحة واحدة من لوحات المدرسة السريالية التي تعدّ تطورا للمدرسة الدادائية التي ظهرت بالأساس نتيجة الحرب العالمية الثانية، عندما شعر الفنانون بانفصالهم عن الواقع المحيط، ورغبتهم في التعبير عن أنفسهم ومشاعرهم المعقدة بعيدا عن الواقع الذي يمكن أن نشاهده ببساطة في الصور الفوتوغرافية؛ لذلك ظهرت لوحاتهم معقدة وغرائبية وتحمل انطباعات الغضب والاغتراب.

المصدر : مواقع إلكترونية