لوحة "الغني الشَّره" تحفة فنية وقصة مأساوية

كان دانهاوزر يحاول عبر لوحاته أن يكون صوت من لا صوت لهم: العمال والفلاحين والفقراء والمشرّدين

Josef Danhauser
الرسّام النمساوي جوزيف دانهاوزر (الصحافة الأجنبية)

رغم أن الرسّام النمساوي جوزيف دانهاوزر (Josef Danhauser) لم يعش أكثر من 40 عاما (1805-1845) فإن أعماله أثارت جدلا واسعا لكونها تعاملت مع قضايا اجتماعية وأخلاقية، مما أثار استياء طبقة النبلاء وأصحاب النفوذ مسببا تجاهل الطبقات الأرستقراطية لأعماله كليا، فكان من الرسامين المنبوذين بين أقرانه.

كان دانهاوزر يحاول عبر لوحاته أن يكون صوت من لا صوت لهم: العمال والفلاحين والفقراء والمشرّدين، وحتى البغايا اللواتي سلكن هذا الطريق المعوج بزعم ضيق ذات اليد.

وبالنظر في لوحاته، فإن فلسفة صريحة وواضحة لا تقبل التأويل تطل علينا من بين ثنايا القماش والألوان، وهي أن آخرين غيرنا يحلمون بقدر زهيد مما نتمتع به نحن. ولعل أكثر لوحات دانهاوزر تعبيرا عن تلك الفلسفة هي "الغني الشَّره" (The Rich Glutton) والمرسومة عام 1836.

تعج اللوحة بالتفاصيل التي تثير السخرية والرثاء في آن. يقف ثري في مركز اللوحة، وهو بطل المشهد. يرتدي ثيابا تعبّر عن وضعه الاجتماعي والكثير من المجوهرات، ويشرب كأس نبيذ (خمر) وأمامه طاولة عليها مأكولات. على النقيض التام، يقف فقير مسكين مرتديا أسمالا بالية، ويمد قبعته نحو السيد لعله يجود عليه ببضع لقيمات.

ينطوي التناقض أيضا على صورة أخرى لخادم ربما تم استجلابه عبدا من أحد البلدان التي احتلها الإنجليز، يقف مندهشا وهو ينظر إلى المسكين الذي نجح في الوصول إلى غرفة الطعام عبر الشرفة المفتوحة. يحمل الخادم زجاجة خمر للسيد الذي يقف منتصف اللوحة رافعا كأسه فارغة، وغالبا ينتظر المزيد.

بالعودة إلى وسط اللوحة، نجد أن السيد الشره مُحاط بامرأتين، إحداهن تقف ممتعضة من منظر الفقير الذي دخل من الشرفة، وتميل نحو سيدها الغني وهي تضع يدها على ردائه. ترتدي المرأة فستاناً يدل على طبقتها الاجتماعية، بالإضافة إلى المجوهرات في يديها، وتنظر نحو الفقير المسكين كأنه مصدر تهديد.

لوحة الغني الشره للفنان جوزيف دانهاوزر
لوحة الغني الشره للرسام دانهاوزر (موقع ديجيتال بلفدير)

دخول الجماهير مسرح التاريخ

منذ زمن الثورة الفرنسية، بات يُنظر بعين الريبة إلى الطبقات العاملة أو الفقيرة كأحد مصادر التهديد. وقد اشتد الأمر زمن الثورة الصناعية، إذ نظرت طبقة البرجوازيين والوسط الليبرالي واليمين المحافظ إلى الطبقات الأقل حظا على أنها قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي وقت. وهي النظرة ذاتها لليساريين تجاه الفقراء كبطاقة رابحة تستطيع الإطاحة "بالاستقرار البرجوازي" في أوروبا القرن الـ 19.

هذا القلق المتنامي دفع الطبقات الكادحة إلى مسرح الفن، وكذا مسرح التاريخ والسياسة، وربما لهذا السبب تنظر المرأة على يمين المشهد نحو الرجل المسكين بفزع، وكأنه شبح سيُجهِز عليها. بينما غضّت الأخرى (ذات الفستان الأصفر التي تجلس على اليسار) الطرف عن وجوده كليا وتوجهت بكامل جسدها نحو السيد الذي يعزف الموسيقى، والذي يمعن النظر فيها، وكأنه لا أحد دخل من الشرفة لتوّه.

مهارة منقطعة النظير

تعد أعمال دانهاوزر من التحف العالمية في ما يخص مهارة الرسم ودقة التفاصيل، ونقل محتوى سردي قوي. كذلك عُرف عنه استخدامه الدقيق للألوان التي، رغم درجاتها الفاتحة، لا تتعارض من قصة العمل الحزينة. ونرى في اللوحة رسماً دقيقاً لتفاصيل شديدة التعقيد، مثل متعلقات الأسرة البرجوازية من الأواني الفضية إلى القبعات الفارهة والمصوغات الذهبية.

نرى كلباً رابضاً تحت المقعد الخشبي، على سجادة دقيقة التفاصيل، كأنها حقيقية. الأمر ذاته ينطبق على بقية المفروشات، من الستائر وأقمشة الكراسي إلى الفساتين، وحتى رداء الثري الواقف منتصف اللوحة يأكل ويشرب بشره بينما يرتدي بضعة خواتم ذهبية.

كذلك نجد أن دانهاوزر رسم 3 لوحات أخريات داخل اللوحة الكبرى، وهي ذات طبيعة صامتة تُزيّن جدران الغرفة الفارهة. تصلح مواضيع اللوحات الثلاث كلوحات مستقلة في حد ذاتها.

حصل هذا الرسام على السمعة التي يستحقها قبيل وفاته، رغم السخط البرجوازي الذي واجهه في البداية. وقد اشتهر في القرن الـ 19 بأسلوبه الدقيق وموهبته الفذة وأنماطه الروائية والسردية في الرسم. واليوم يعد واحداً من أعلام الرسم الأوروبيين الذين عاشوا في ذروة عصر الثورة الصناعية.

المصدر : الجزيرة