مسلسل "هذا سيؤلم".. طبيب في برزخ بين الحياة والموت

تجاوز آدم مكاي أخطاء التنميط الناتجة عن عشق شخصية البطل وتحويلها في الدراما إلى شخصية ملائكية، فاستطاع تقديم مسلسل قابل للتصديق.

بن ويشاو في مشهد من مسلسل هذا سيؤلم المصدر: الصحافة البريطانية
"بن ويشاو" في مشهد من مسلسل "هذا سيؤلم" (الصحافة البريطانية)

يعد المسلسل الدرامي "إي آر" (ER) الذي بدأ عرضه عام 1994 الأكثر نجاحا في تاريخ التلفزيون الأميركي، وقد بلغ عدد حلقاته 331 حلقة على مدى 15 موسما حتى العام 2009 محققا إيرادات تلفزيونية تجاوزت 3 مليارات دولار.

وحصل فريق المسلسل الطبي على 116 جائزة و124 ترشيحا، ودفع بأبطاله إلى سماء النجومية، ليصبح النموذج الذي يتطلع إليه صنّاع الدراما حين يصادف أحدهم سيناريو عمل درامي طبي.

وقد قدم "إي آر" تشريحا كاملا للتعاملات والأحاديث داخل المستشفى، ولهيكل السلطة التي تدعم النظام الصحي السائد وتدمره في الوقت ذاته، وهو ما فعله صانعو مسلسل "هذا سيؤلم" (This Is Going to Hurt) الذي أنتجته شبكة "بي بي سي" (BBC) حديثا، ليتناول الموضوع ذاته بشكل مختلف.

ويكتسب العمل قيمته الحقيقية من كونه قادما من أرض الواقع، حيث كتبه آدم مكاي، الطبيب المخضرم الذي قضى أعواما طويلة في المستشفيات، وهو يتمتع بالقدرة على الكتابة الكوميدية، لذلك جاء الكتاب الذي نُشر كسيرة ذاتية مفعما بالضحك الساخر والتعليقات القاسية الخالية من المشاعر. واللافت أيضا أن الطبيب الكاتب قدم شخصيته التي جسدها الممثل "بن ويشاو" بشكل فني مذهل.

ولم يكن الطبيب في الكتاب أو المسلسل يحمل من سمات البطولة إلا تلك التي اضطر إليها بشكل تلقائي وفقا لظروف عمله التي تدفع به في هذا الاتجاه، لكنه لم يكن مثاليا بأي شكل من الأشكال.

والطبيب العالق بين نظام صحي متهالك ومدمر، وبين حياة اجتماعية آلت إلى الخراب، هو شخص عاديّ تماما، يرتكب الأخطاء، بل وفي بعض الأحيان يكون شاكّا في قراراته أخلاقيا.

وقد تجاوز مكاي أخطاء التنميط الناتجة عن عشق شخصية البطل وتحويلها في الدراما إلى شخصية ملائكية، فاستطاع تقديم مسلسل قابل للتصديق.

ولادة

وجاءت الصورة الدعائية المصاحبة لمسلسل "هذا سيؤلم" لافتة، إذ يقف خلالها رجل يرتدي ملابس طبيب، وقفازات في يده، يمسك بمقص طبي يشيح به أمام الكاميرا، وعلى وجهه نظرة ثابتة فيها شيء من القتامة والجدية والسخرية في آن.

وقدمت الصورة الفوتوغرافية الدعائية بطل العمل، وعبّرت في الوقت نفسه عن طبيعة الشخصية التي يجسدها. فهو طبيب قلق وحزين وساخر من كل شيء حوله طوال الوقت، وأحيانا تتطلب المواقف التي يقع فيها -بصفته طبيب طوارئ- اختبار كل هذه المشاعر في وقت واحد من دون إرادة منه.

ويقدم المسلسل، الذي يحكي قصة طبيب يعمل في جناح المخاض والولادة، تصويرا وحشيا وشديد الواقعية للحياة داخل المستشفيات. ويعيش الطبيب طوال الوقت، بحكم وظيفته، في منطقة برزخية بين الحياة والموت، يزيد من صعوبتها على البطل المهدد طوال الوقت بالعودة إلى وطنه إذا ارتكب أخطاء أو لم يجد لها حلولا.

قلق مزمن

وفي المشهد الافتتاحي للعمل، يستيقظ الطبيب على مكالمة هاتفية تنبهه على تأخره عن نوبته في جناح الولادة. ويقول المتصل إن هناك امرأة في حالة ولادة داخل ساحة انتظار السيارات في مستشفى لندن العام حيث يعمل. والطبيب الذي نام ليلته داخل سيارته يصادف المرأة تلهث وتئن في الخارج. ويكتشف أنها بحاجة إلى ولادة قيصرية طارئة وأن يد الطفل، التي ليس من المفترض أن تخرج أولا، قد خرجت بالفعل من رحم الأم.

وقد قام بدفع السيدة إلى مصعد صيانة بدون أبواب، ثم ألقى بها على عربة نقالة مسرعة باتجاه غرفة الولادة، واستخرج المولود الجديد من رحمها.

إمكانيات ضعيفة يوفرها النظام الصحي، تتطلب أن يتحول الطبيب إلى بطل، وليس مجرد طبيب يمارس عمله بشكل منظم وهادئ، لكن لا أحد يستطيع أن يمارس البطولة طوال ساعات يومه، وبالتالي فإنه يلمس صعوبة توليد النساء واستحالة استمرار الحياة بهذا الشكل.

أما الوضع الخطير للطبيب فيجعله على مسافة دائمة من الفرح بأي إنجاز يصنعه عبر إنقاذ بعض الأمهات أثناء ولادتهن الصعبة. وكان ذلك الطبيب (الممثل بِن ويشاو) يولد باستمرار مع كل عملية يدخلها، ويعلّق مستقبله كاملا بمدى نجاحها.

وقدم ويشاو في "هذا سيؤلم" ربما أفضل أدواره داخل شخصية تسخر بسوداوية من الأوضاع داخل المستشفيات عموما. لكن عدم اعتماد المسلسل على بطل مطلق، وإتاحة الفرصة للبطولة الجماعية، دعما محاولات تشريح وفهم بعض التصرفات داخل المجتمع الأميركي العنصري أحيانا على بعض الملونين، مثلما كان يحدث مع شخصية "ترايسي" التي قدمت شخصيتها الممثلة "أمبيكا مود" بصوت هادئ وخائف من كل شيء حوله.

مسلسل "هذا سيؤلم" تصوير درامي لأحداث حقيقية حدثت مع صانعيه، يكسر البطل خلاله الخط الوهمي بالحديث المباشر مع المتفرج، عن مدى جدوى الأحداث أو قسوتها، ما يضع بطل العمل في منطقة واحدة مع المشاهد، يتساءل ويندهش ويبحث عن حلول كي لا يموت البطل/ الطبيب قبل المريض الذي يعالجه.

أما ما يجعل في المسلسل القاتم بعض السلوى والسخرية، فهو المفارقة التي يعيشها البطل دائما؛ طبيب يستدعي عمله أن يعيش الناس حياتهم بشكل أفضل، بينما نكتشف بمرور الأحداث أن الرجل المطالب بتقديم حياة أفضل للناس، لا يمكنه أن يعيش حياته خارج المستشفى أبدا!.

يعيش البطل، طوال حلقات المسلسل، على الحدود بين الحياة والموت، تماما مثل المرضى، بينما عليه أن يتلاءم مع التزامات رجل في العشرينيات من عمره يجب عليه الحفاظ على علاقاته الاجتماعية بالأسرة والأصدقاء ومجتمع العمل، إلى جانب مساحة طفيفة يبحث فيها عن علاقة عاطفية.

بن ويشاو و امبيكا مود في مشهد من المسلسل المصدر: الصحافة البريطانية
"بن ويشاو" و أمبيكا مود في مشهد من المسلسل (الصحافة البريطانية)

واقعية مفرطة

حظي مسلسل "هذا سيؤلم" بتقييم جيد من النقاد، كما لقي رواجا جماهيريا لافتا، ربما لأسباب منطقية، إذ كان وراء صناعته الكاتب والطبيب السابق آدم مكاي، الذي استمد أحداثه من مذكراته الذي أصدرها في كتاب حمل الاسم ذاته عام 2017، وكان ضمن قائمة الكتب "الأكثر مبيعا"، وفق صحيفة "صنداي تايمز" (Sunday Times).

وضع كاتب المسلسل والكتاب، مكاي، جوهر تصوره للمجتمع الأميركي اليوم، انطلاقا من احتقاره تمجيد الرأسمالية وشعاراتها عن العمل المستمر، ما جعله يكتب مشاهد مفزعة عن حياة الأطباء والممرضين داخل المستشفيات وخارجها، إذ يعمل هؤلاء، عموما، بشكل ميكانيكي بلا مشاعر تجاه العالم، تماما مثل بطل المسلسل.

مسلسل "هذا سيؤلم" يفترض منذ البداية بشاعة بصرية مفرطة على الجميع، اسمه وأبطاله وأحداثه تقر بذلك، وهي بشاعة لا تسعى إلى إدانة أي شيء سوى الرأسمالية. وثمة رسالة واضحة من العمل، وهي التخلص من كل هذه القسوة على البشر، ويكون ذلك من خلال التخلص من نظام مؤسسي لا يرحم الإنسان.

المصدر : الجزيرة