جودي فوستر.. مسار غني يمزج الموهبة الذاتية بقوة الأداء السينمائي

في الأفلام ذات النزعة النفسية يظهر مدى حرص جودي فوستر على أداء أدوار مركبة وأكثر التحاما بالشرط الإنساني وقدرته على العيش والحرية وتقرير مصيره.

بقدر ما توغلت فوستر في عوالم السينما، ظلت بعيدة عن التلفزيون الأميركي (الأوروبية)

الدارالبيضاء – في السنوات القليلة الماضية، تكرس اسم الممثلة السينمائية الأميركية جودي فوستر (1962) كأبرز الوجوه الفنية التي اكتسحت السينما العالمية. فرغم امتلاكها فيلموغرافية (قائمة أفلام) سينمائية قليلة -مقارنة مع ممثلات فرنسيات وأميركيات وأستراليات- لكنها بقيت مؤثرة داخل وجدان المشاهد وسيرته في علاقته بالأفلام التي شاهدها طيلة حياته.

إن الرغبة في التجديد عامل أساسي في سيرة فوستر السينمائية؛ بسبب جمعها بين التمثيل والإخراج والإنتاج. وإن كانت صورة الممثلة تحضر بقوة لأنها الأصل، أما الإخراج والإنتاج فهما مجرد يوميات عمل بالنظر إلى ما حققته جودي فوستر كممثلة داخل أميركا وخارجها. والتي جعلتها محبوبة داخل سينما هوليود وتحظى باحترام بالغ في قلوب العديد من المخرجين كمارتن سكورسيزي وجوناثان ديم وديفيد فينشر وغيرهم من المخرجين الذين صنعوا مجد جودي فوستر السينمائي داخل الشاشة الكبيرة.

سعفة "كان" الذهبية

لم يكن مهرجان "كان" السينمائي الفرنسي أول جهة رسمية تكرم جودي فوستر، بل سبق لها أن كرمت من قِبل جهات عالمية كثيرة بمناسبة حصولها على عدّة جوائز أهمها الأوسكار كأفضل ممثلة في فيلم "المتهم" (The Accused) لجوناثان كابلان، ما جعلها ممثلة عالمية محبوبة من جماهيرها في مختلف مدن العالم.

ورغم غياب فوستر داخل أفلام تلفزيونية ومسلسلات، إلا أن حضورها داخل برامجها السنوية يبدو كبيرا مقارنة بممثلات فرنسيات. وبالتالي، فإن منحها سعفة ذهبية، لم يكن اعتباطيا، بقدر ما ارتبط بالطابع المركزي الذي أضحت تحتله الممثلة في وجدان المشاهد الفرنسي. إنها مزيج فكري قوي تجمع بين الفرنسية والأميركية وتتطلع دوما إلى ثقافات الآخر بنفس المسؤولية والشغف الذي يتملكها تجاه ثقافة بلدها الأصل.

وثمة أفلام فرنسية كثيرة صنعت مجد فوستر السينمائي وهي طفلة. فقد ساعدها ذلك على اختيار أفلامها ومخرجيها خاصة حين يتعلق الأمر بأفلام ذات قضايا هامة تشغل بال الاجتماع العالمي. هذا الأمر ساهم بشكل خفي في صناعة ثقافتها السينمائية وجعل جودي فوستر تنتسب في طفولتها إلى المدرسة الفرنسية داخل مدينة لوس أنجلوس الأميركية، حيث أصبحت تتقن الفرنسية وكأنّها لغتها الأصل، هذا فضلا عن عشقها الكبير لثقافتها وصورها وفنونها ومتخيلها.

جودة الأداء

لكن وبقدر ما توغلت فوستر في عوالم السينما، ظلت بعيدة عن التلفزيون الأميركي بما فيه من ترفيه واستهلاك في علاقته بالمتن البصري وتصوره للفن عموما بوصفة وسيلة للترفيه وأداة لحجب الواقع الأميركي وما شهده منذ ثمانينيات القرن الـ20 المنصرم من أهوال ومآزق وتصدعات.

وبالتالي فإن رغبة فوستر في الابتعاد بدت بارزة منذ بداية مسيرتها الفنية، فهي لا تعمل على الاشتغال بتلقائية مفرطة داخل الفن السابع، بل تختار أفلامها بعناية فائقة. والدليل على ذلك ركام الأفلام المميزة التي مثلت فيها أو ساهمت في إعدادها إخراجا وإنتاجا وهي جميعها تتنصل من الهاجس الترفيهي التنميطي، الذي يتعامل مع قصص الناس وحكاياتهم وكأنها كرنفال بصري يستحق المشاهدة والاستمتاع.

هذا مع العلم أن أفلامها ذات أبعاد سياسية واجتماعية ضاربة في أتون الواقع الأميركي، إما على شكل سيرة متخيلة تقرأ هذا الواقع سينمائياً وتتنطع إلى مجاوزته. أو على شكل صورة سينمائية تدين الواقع الأميركي ومؤسساته، كما هو الحال في فيلمها الأخير "الموريتاني" (The Mauritanian) عام 2021 للإسكتلندي كفن ماكدونالد، حيث تلعب جودي فوستر دور محامية تعمل جاهدة على مساعدة المعتقل محمد ولد صلاحي (طاهر رحيم) في غمرة أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. ويروي الفيلم يوميات المعتقل بسجن غوانتانامو ورصد مختلف أشكال العنف الممارس عليه على مدار 14 سنة من السجن.

"الموريتاني" وغولدن غلوب

ففي دورها كمحامية والذي جعلها تفوز بجائزة "غولدن غلوب" كأفضل ممثلة مساعدة. تلعب فوستر دورا مركبا ومغايرا لطبيعة أدوارها الأخرى. لا سيما أن أدوار من هذا النوع يختلط فيها السينمائي بالأيديولوجي، تجاه قضية أكثر حساسية بالنسبة للمخابرات الأميركية. بحيث يجعل الممثل/الممثلة يأخذ أولا موقفا من الشخصية ويكوّن نظرة عامة عن مسارها السياسي/الأيديولوجي قبل قبول أداء الدور. لذلك تطالعنا فوستر في شخصية "نانسي" بدور حقيقي نابع من شغاف الجسد، حيث الملامح أكثر تطابقا مع الصورة السينمائية. لكن سينمائيا يبقى العمل متواضعا على مستوى المعالجة ونحت الصورة.

جودي فوستر في دور المحامية نانسي هولاندر في فيلم "الموريتاني" (مواقع التواصل)

وبالرغم من حرص المخرج كفن ماكدونالد أن يكون محايدا، فإنه سرعان ما تؤكد صور الفيلم وحوارات حجم النقد المضمر الذي تختزنه الصورة والموجه أساسا إلى الحكومة الأميركية التي تعمل على اعتقال شخص بتهمة "الإرهاب" أمام غياب أي دليل قاطع يؤكد علاقته بالأحداث. لكن السبب الخفي الذي يجعل "الموريتاني" يعاني هشاشة فنية يتمثل في غلبة النص كحكاية وقدرتها على التهام جميع التفاصيل الفنية والجمالية للفيلم. لأن الحكاية (المؤلف) تسيطر على الصورة وتجعلها تابعة لديناميتها، دون أن تصبح الصورة (المخرج) مستقلة باشتغالاتها وأنماطها وجمالياتها.

حمولة نفسية

أما الأفلام الأخرى ذات النزعة النفسية، فهي تظهر مدى حرص جودي فوستر على أداء أدوار مركبة وأكثر التحاما بالشرط الإنساني وقدرته على العيش والحرية وتقرير مصيره. كما نعثر على ذلك في فيلم "غرفة الهلع" (Panic Room) لديفيد فينشر، حيث الفيلم لا ينبني على حكايته أو براعة تأليفه أو شاعرية تصويره، لكنه يستند فقط على شخصية تعمل على حماية ابنتها من مجرم يحاول قتلها. حيث تصبح كاميرا فينشر أكثر ارتباطا بفوستر، وهي تنقل تلك المشاعر والأحاسيس التي تجتاح المرء لحظة المطاردة.

ففي هذا الفيلم، تبرز ملكات فوستر في الأداء وقدرتها على صياغة ملامح شخصية وازنة تمزج بين الحيطة والخوف. وهذا أصعب ما يواجهه الممثل، حيث يفرض عليه أداء وضعيات جسدية قريبة من بعضها، دون أن يتجاوز حدود الأخرى، حتى يظل محافظا على أبعاد الشخصية التركيبية داخل المشهد ولا يخلق أي نشاز بالنسبة لسلم المَشاهد والصور التي قبلها.

ويرى كثير من النقاد أن فيلم "صمت الحملان" (The Silence of the Lambs) أهم دور سينمائي لجودي فوستر. حيث تؤدي شخصية مخبرة شابة داخل المباحث الفدرالية الأميركية للبحث في نفسية قاتل. هكذا تجد نفسها في خضم شخصية أخرى أكثر خطورة يدعى "هانيبال ليكتر" (أنطوني هوبكينز) الشهير هو الآخر بالقتل والعنف وأكل لحم البشر، حتى يدلها على القاتل الأول. لكن قبل ذلك عليها أن تحترم آراءه وتطلب وده كي يبسط بين يديها تجاربه مع المرضى ووساوسهم. كما أن الفيلم في الأصل عبارة عن رواية تحمل نفس العنوان وهي للروائي توماس هاريس.

لكن رغم أن الفيلم حصل على أكثر من 4 جوائز أوسكار وصنف ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما العالمية، فإنّ قوة أداء فوستر في هذا الفيلم تبقى متواضعة، ليس لضعف في الأداء، وإنما لأن الفيلم مرتبك على مستوى كتابته، لأن جمالياته تقوم وترتكز على شيء واحد؛ هو "التشويق".

ولم يكن التشويق يوما وسيلة فنية يتوسل بها المخرج إلى اجتراح صورة سينمائية مغايرة، وحتى عند المخرج ألفريد هتشكوك فالتشويق أداة من أدوات الفرجة لا أكثر. أما في "صمت الحملان" فإن التشويق يأخذ بعدا كليا ويلتهم النص وأداء الممثل ويجعلهما مجرد أشياء خارجة عن العمل السينمائي وهذا راجع إلى قوة التأثير الذي يمارسه مفهوم التشويق على مخيلة الإنسان لحظة المشاهدة.

المصدر : الجزيرة