"مجانين حلب".. شهادة سينمائية واقعية عن المأساة السورية

كل شخصية تلعب دورا مهما داخل الفيلم على مستوى البوح وتمديد الحكاية السردية السورية.

رغم البعد التوثيقي الذي يطبع مسار الفيلم، فإن المخرجة ظلت بعيدة عن الطابع التسجيلي (الجزيرة)

الدار البيضاء- في عام 2019 استطاعت الصحفية والمخرجة السورية لينا سنجاب من خلال فيلمها الوثائقي "مجانين حلب" نزع اعتراف عدد من المؤسسات السينمائية، عربية منها وعالمية.

فحجم التفاعل مع الفيلم منذ عرضه الأول في بيروت وما اقترحه من جماليات سينمائية وطريقة نظر مغايرة إلى الواقع السوري والقبض عنه داخل صورة وثائقية أقرب إلى المأساة، جعله في طليعة الأفلام الوثائقية، التي نجحت في توثيق التراجيديا السورية بعد ثورات الربيع العربي، وبالضبط خلال الأشهر الستة الأخيرة من سنة 2016 بمدينة حلب الشرقية.

وترصد لينا سنجاب يوميات آخر مشفى سوري، يعمل تحت الأرض في خدمة المدنيين، الذين أصيبوا جراء القصف الذي شهدته المدينة طيلة الأشهر الأخيرة من لدن النظام السوري، قبل أنْ تتم عملية الترحيل.

صورة مزدوجة

وبما أن فيلم "مجانين حلب" ليس الوثائقي الأول الذي يوثق أهوال الحرب السورية، إذ سبقته أفلام عديدة أرخت بصريا للتشرذم والضياع الذي عاشته سوري في السنوات العشر الأخيرة، لكن من الناحية الجمالية يظل فيلم لينا سنجاب الأكثر دقة وتلقائية على مستوى رصد الواقع وتماهيه معه، لأنه جماليا لا يروم إلى نقل حيثياته ونتوءاته بشكل مباشر وفج، بل تكتفي الكاميرا بتصوير الواقع، انطلاقا من أجساد الجرحى والمعطوبين.

وهي لعبة بصرية مرآوية تلجأ إليها لينا سنجاب لجعل الفيلم يبقى عملا فنيا، رغم ما يطبعه من توثيق وأرشفة لأهوال وأعطاب المدينة، مما ساهم في استبدال صورة خطاب منفرد وغائم بآخر بوليفوني (تعدد الأصوات). حيث كل شخصية تلعب دورا مهما داخل الفيلم على مستوى البوح وتمديد الحكاية السردية السورية وجعلها تأخذ ميسما مغايرا وصورة متعددة في ذهن المشاهد مع أنها تظل تنطلق من الواقع نفسه وتشتركان الألم والمعاناة.

الصحفية والمخرجة السورية لينا سنجاب (الجزيرة)

التوثيق بدل التخييل

الفيلم خطابه متشعب وصورته مزدوجة تنتقد وترصد في آن واحد، رغم أحادية فضاء مستشفى القدس ويومياته القاهرة، هذا لأن هاجس التوثيق أقوى من أيّ فعل آخر.

ثم لأن تصدعات وأهوال ومآزق المدينة تتجاوز الخيال نفسه وتجعل من عملية التخييل الفني ضربا من الفانتازيا البصرية، التي لا تتماشى مع سلطة التاريخ وحساسية اللحظة التي مرت بها مدينة حلب خلال سنة 2016.

ورغم البعد التوثيقي الذي يطبع مسار الفيلم، فإن المخرجة ظلت بعيدة عن الطابع التسجيلي، الذي خيم على الفيلموغرافيا العربية إبان السبعينيات.

فـ"التوثيق" هنا يتخذ بعدا جماليا رغم التصاق الكاميرا بحساسية اللحظة، فإن لينا سنجاب، تترك لنفسها مساحة بين الفينة والأخرى للخروج بالكاميرا، صوب المدينة ونقل البشاعة وكتل الخراب والغبار الملتصق بوجه فضاءات حلب.

لأنّ هذه الاستراحة أشبه بقطيعة جمالية أكثر منها توثيقية، والسبب يكمن في كونها تصور القبيح كمفهوم جمالي، إنها تتوسل بالخراب والدمار لتبني عملا وثائقيا وليس متخيلا.

تتيح مسألة قلب الواقع عند لينا سنجاب من خلال تصويره عبر أجساد الناس على تغيير بنية فيلم "مجانين حلب"، بحيث يجعل هذا القلب الجمالي الذكي لدى المخرجة الكاميرا تنتقل ببطء من رصد اجتماعي لمدينة حلب إلى استشكال البنية النفسية لشخصيات الفيلم من طبيب وممرضين وجراحين وباقي العاملين "بمشفى القدس".

إنها بطريقة ما تعيد رصد تحولات سيكولوجية للفرد السوري إبان القصف والقبض عنها بصريا بما يجعلها منطبعة في الذاكرة السورية حول مصير الأفراد والعاملين بمشفى القدس والتضحيات الكبيرة، التي قدموها للناس وهم على حافة الحياة والموت.

وبالتالي لولا كاميرا لينا سنجاب، لم يكن العالم سيعرف شيئا عن مصير الناس داخل مدينة الحرب في تلك اللحظة الحرجة من سنة 2016.

 

تصور لينا سنجاب القبيح كمفهوم جمالي، إنها تتوسل بالخراب والدمار لتبني عملا وثائقيا وليس متخيلا (الجزيرة)

بساطة الحكي

ورغم أن الفيلم لم يحصل على جوائز كثيرة مقارنة بأفلام سوريّة أخرى، فإن وثائقي "مجانين حلب" يبقى الأصدق والأجمل وفي مقدمة الأفلام العربية، التي تجاوزت النمط الترفيهي في التصوير من خلال جعل الكاميرا ملتصقة بحساسية الحدث ومسام الواقع السوري وأجساد الناس لحظة التشظي والمعاناة، التي طبعت حياتهم اليومية داخل المشفى تحت الأرض.

صور وقصص وحكايات لن تنسى من الذاكرة السورية، أمام صور الأفعال الإجرامية المرتكبة في حق النساء والأطفال. إن كاميرا لينا سنجاب قوية وقادرة على تحطيم صمت الجدران وكل المناطق اليباب من الاجتماع السوري.

لا يعاني وثائقي لينا سنجاب من أية هشاشة يسجلها المرء لحظة المشاهدة، والسبب كامن في أن المخرجة لم تطرق باب الخيال قط أو حتى أن تفكر في إضافة خلطات فنية وجمالية تخلخل نشيد الفيلم، مما جعل إيقاعه واقعيا واحدا يحتكم إلى أسلوب سلس وبسيط في تأكيد الحكايات وجعلها تتداخل وتتمازج فيما بينها داخل الصورة الوثائقية بشكل تلقائي كأن الفيلم لم يكتب من قبل.

بل تركت سنجاب الكاميرا مشرعة في وجع الألم السوري ومخاضاته، حتى تلتهم ما يتساقط من أجساد وشظايا رجال ونساء وأطفال.

لا يعاني وثائقي لينا سنجاب من أية هشاشة يسجلها المرء لحظة المشاهدة والسبب كامن في أن المخرجة لم تطرق باب الخيال قط(الجزيرة)


كما أن رغبة النقد لدى المخرجة قوية تجاه الحرب، لكنها غير منفعلة لدرجة تطغى على الصورة الوثائقية، بل جعلت هذا النقد يتسرب إليها عبر شلال الحكي وحوارات الشخصيات بطريقة تلقائية، لا تحتكم إلى أي فعل أو تفكير مسبق.

يستند الحكي في الفيلم على مؤثرات واقعية لا متخيّلة. كثرة الشخصيات وعفوية حواراتها تجمل الصورة وتجعل الحكي ينساب هادئا، بطريقة يبدو فيها الوثائقي امتدادا عميقا للحياة الحقيقية داخل مدينة حلب.

قصف وانفجار ودمار وعنف وموت وترحيل وتنكيل وبطش، مفردات بصرية تتوسل بها لينا سنجاب لتصنع خطابا بصريا قويا بعيدا عن الرمز والاستعارة والمجاز، إنها تصنع متخيل المشفى واقعيا.

فالخيال لا يتفوّق على جرح اللحظة ومكابداتها الأليمة داخل الاجتماع السوري، لأن مآسي الواقع أعمق من ذلك بكثير، فهو يقف دوما في وجه الخيال ويحرض الصورة على التوغل في مسام الواقع، بل يجعلها تنصاع له بشكل كلي على مستوى الحكي والسرد.

المصدر : الجزيرة