اللوحات السوداء.. قصة سحرة وشياطين وقرابين بشرية على جدران المنزل الأكثر رعبا

ما حدث في بيت الرجل الأصم يلقي الضوء على عالم غريب لا علاقة له بالبشر.

لوحة رجلين عجوزين يأكلان حساء (مواقع التواصل)

يُحكى أن رساما ضعيف السمع اشترى منزلا قديما في منطقة نائية تقع على ضفاف نهر مانزاناريس بالقرب من مدريد عام 1819، ليعيش فيه منعزلا بمفرده يخطب ود الإلهام الغائب. المنزل الذي يتكون من عدة طوابق كان يُعرف باسم "منزل الرجل الأصم"، لأن المالك الأصلي للبيت كان أصمّ.

الغريب في الأمر أن الساكن الجديد -وهو الرسّام- أصيب بإعياء شديد، وظل طريح الفراش عدة أيام بعدما انتقل للمنزل حتى أصيب هو الآخر بالصمم.

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فالرسّام بعدما فقد سمعه كليا بدا أنه يسمع مخلوقات مختلفة من عوالم أخرى، وشرع في رسم لوحات غريبة على كافة جدران المنزل الذي لا يزال حتى اليوم مكانا مريبا، يشعر فيه الزوار بالكآبة والخوف.

هذا الرسام هو فرانسيسكو خوسيه دي غويا إي لوسينتس (1746-1828) الذي يعتبر أهم فنان إسباني في أواخر القرن 18 وأوائل القرن 19.

منزل الرسام فرانسيسكو خوسيه دي غويا إي لوسينتس (مواقع التواصل)

سلسلة اللوحات السوداء (The Black Paintings)

ربما تكون بعض المعتقدات الدينية قد لفتت النظر إلى أن الصور والرسوم وحتى التماثيل قد تكون مقرا وسكنا للجن والعفاريت، حتى أن بعض المعتقدات ذهبت لتحريم تمثيل ذوات الأرواح بالكلية. وقد يتعامل البعض مع قصص اللوحات والصور المرسومة على أنها محض "فانتازيا" وقصص شعبية خيالية.

إلا أن ما حدث في بيت الرجل الأصم يلقي الضوء على عالم غريب لا علاقة له بالبشر، عالم "ما ورائي" فُتح بابه للرسام ليسمع قصصا وحكايا ما كان ليسمعها لو ظل يتمتع بحاسة السمع. فما حدث في ذاك المنزل يخالف قواعد المنطق ويتخطى حدود الخيال، وكثيرون بحثوا عن إجابة منطقية لأن يرسم رجلٌ مُسن وهو يعيش وحيدا في بيت مخيف سلسلة لوحات، عُرفت فيما بعد باللوحات السوداء؛ وفي هذا الصدد تعددت الإجابات.

لقد رسم غويا أشباحا وعفاريت وحتى الشيطان نفسه، والكثير من الساحرات القبيحات، وأطفالا رُضّع يتم التضحية بهم قرابين للجن والشياطين. ففي كل غرفة يجد الزائر ما لا يطيق إنسان طبيعي تحمله. ومع ذلك، فقد عاش غويا في ذاك المنزل سنوات بين تلك الأشباح والساحرات والقرابين. لماذا فعل ذلك وكيف تحمل العيش هكذا؟ لا أحد يدري. فالكثيرون صعقوا من هول ما رأوه في البيت بعد وفاته، حيث إنه لم يسمح لأحد بزيارة منزله عندما كان حيا.

سلسلة اللوحات السوداء (مواقع التواصل)

نظرة قاتمة للوجود والبشر

يبلغ عدد اللوحات التي وجدت مرسومة على جدران منزل غويا 14 لوحة، رسمها في السنوات الأخيرة من حياته، على الأرجح بين عامي 1819 و1823. وبعد وفاته اشترى المنزل رجلٌ يُدعى البارون فريديريك إميل دي إيرلانغر، وقد دهش من منظر الجدران التي تم قطعها لاحقا وربطها بالقماش ونقلت للعرض في متحف ديل برادو في مدريد، ثم هُدم المنزل كليا عام 1909، ولا تزال مواضيع تلك السلسلة من اللوحات حتى اليوم محل تحليل ودراسة العديد من الأطباء النفسيين والنُقاد.

ففي ساحة العلم، لا يعترف المختصون بالعفاريت والمخلوقات الماورائية، بل على النقيض من ذلك، يحلل الكثير من النقاد والأطباء تلك اللوحات في سياقها التاريخي والاجتماعي. فقد خلّفّت الحروب النابليونية والاضطرابات الداخلية للحكومة الإسبانية المتغيرة، إحساسا مريرا بالمصير القاتم الذي ينتظر البشر شاؤوا أم أبوا. وغويا نفسه كان لديه شعور عميق وحاد بالذعر والرعب والخوف والهستيريا من انتشار التعذيب حتى الموت على يد الجيوش النابليونية، ويُعتقد أن الجمع بين هذه العوامل هو ما أدى إلى إنتاجه سلسلة "اللوحات السوداء".

وجديرٌ بالذكر أن غويا نفسه لم يُطلق أي اسم على تلك اللوحات، فقد كانت محض جداريات مرسومة على حوائط المنزل، إلا أن اللوحات اكتسبت أسماءها واشتهرت بها بعدما نقلت لمتحف ديل برادو في مدريد.

أتروبوس (الأقدار)، رجلان عجوزان، رجلان عجوزان يأكلان حساء، قتال مع الهراوات، سبت الساحرات، قراءة الرجال، جوديث وهولوفرنيس، رحلة إلى سان إيسيدرو، نساء يضحكن، موكب من المكتب المقدس، الكلب، زحل يلتهم ابنه، لا ليوكاديا، رؤية رائعة؛ تلك هي أسماء كافة لوحات السلسلة المكونة من 14 لوحة.

ولعل أشهر تلك اللوحات هي "زحل يلتهم ابنه"، والاسم مستوحى من أسطورة الإله الروماني زحل الذي تطارده نبوءة أنه سيتم إسقاطه من قبل أحد أبنائه، فكان يأكل أي طفل يولد له بعد لحظات من ولادته، لكن في النهاية، أخفت زوجته ابنه السادس "المشتري" الذي أطاح بزحل كما ذكرت النبوءة، وأطلق هذا الاسم على لوحة غويا لما فيها من شراسة ووحشية لرجل عملاق مسعور يأكل رجلا آخر صغير الحجم جدا مقارنة به.

ويرى الباحث الفني فرانسيس كونلي أن الصورة عبارة عن عرض مبدع ومخيف لمختل عقلي مسعور عالق في الظلام وغير قادر على التحكم في سلوكه النهم لأكل البشر. فالرجل عار، وشعره ولحيته وتحديقه بعيون واسعة وحركاته العدوانية كلها تُمثّل حالة من الجنون الهستيري. لقد مزق وأكل رأس الآخر والذراع اليمنى وجزءا من ذراعه اليسرى، وهو على وشك أن يأخذ عضة أخرى من ذراعه اليسرى.

غير أكل لحوم البشر، تتناول السلسلة مجموعة من السحرة مجتمعين بالشيطان المتمثل في شكل عنزة سوداء. هناك لوحة أخرى تتناول كلبا صغيرا ينبح بمفرده في صحراء شاسعة، وأخرى فيها امرأتان مسنتان تتناولان حساء، لكن وجوههن مجعدة ومرعبة كأنهن أشباح أو أرواح شريرة. وهذا كله ليس غريبا مقارنة بلوحة فيها 4 رجال وجوههم دميمة ومخيفة ويجلسون في الهواء، وهي اللوحة التي أطلق عليها النقاد اسم الأقدار.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية