بنين.. واحة الحرية في أفريقيا

أكثر من 450 إذاعة في بينين بمعدل إذاعة واحدة لكل عشرين ألف مواطن، وتتمتع بحرية كاملة في معالجة جميع القضايا

ياسين الكزباري – بنين

إذا كنت تعمل صحفيا في اليابان أو كوريا الجنوبية وباقي دول آسيا. أو في إيطاليا وجل دول أوروبا الشرقية، أو البرازيل ومعظم دول أميركا اللاتينية، فإن حرية التعبير المتاحة لك هناك أقل بكثير من تلك التي يمكنك أن تجدها في دولة أفريقية، اسمها بنين.

أثناء عملي في منطقة غرب أفريقيا، لاحظت أن كثيرا من ملاك القنوات التي تبث في المنطقة يلجؤون إلى تسجيل قنواتهم في بنين، ويرجع ذلك بالأساس إلى كونها تتوفر على بيئة قانونية تضمن حرية التعبير أكثر مما يوجد لدى الدول المجاورة. ووفق تقرير "فريدوم هاوس" لسنة 2015، حصلت بنين على ست درجات من أصل سبع في الحريات المدنية والسياسية وفي حرية الصحافة.

وقد عرفت بنين الصحافة منذ قرون عدة، وكان ذلك في عهد مملكة داهومي التي شكلت قوة عسكرية مهابة الجانب جعلت الأوروبيين يلقبونها "إسبرطة السوداء" ولم يسيطروا عليها إلا حين تطورت الأسلحة النارية، وبعد أربعة قرون من العلاقات السياسية والتجارية. وفي مملكة داهومي، فرغ الملك هويغباجا موظفين كانت مهمتهم تلقف الأخبار من مختلف القبائل ونقلها إلى القبائل الأخرى. وكان ذلك في منتصف القرن السابع.

حصلت داهومي على استقلالها من فرنسا سنة 1960، وصار اسمها جمهورية بنين، ورغم الاضطرابات السياسية التي سادت تلك الفترة، فإن حرية الصحافة ازدهرت خلالها، وعن ذلك يحدثنا الصحفي المخضرم وأحد مؤسسي اتحاد الصحفيين المستقلين في هذا البلد هيرفي آيكادو قائلا "عندما استقلت بنين، لم تكن السلطة السياسة مركزة لدى حزب واحد أو قبيلة واحدة.

أكثر من 450 إذاعة في بينين بمعدل إذاعة واحدة لكل عشرين ألف مواطن، وهو أكبر معدل في أفريقيا (الجزيرة)
أكثر من 450 إذاعة في بينين بمعدل إذاعة واحدة لكل عشرين ألف مواطن، وهو أكبر معدل في أفريقيا (الجزيرة)

ورغم صغرها، عرفت البلاد ثلاث قوى متدافعة، شكلت في النهاية مجلسا رئاسيا من ثلاثة أعضاء، فخلق هذا التدافع توازنا أثمر دستورا ديمقراطيا وحرا. وجاء قانون (60-10) الذي منح الصحافة حرية كاملة، ونص بنده الخامس على أن الشرط الوحيد لينشر أي مواطن جريدة أو أي منشور آخر هو أن يضع إخبارا لدى المدعي العام ووزارة الداخلية. وقد أدت هذه السلاسة".

لكن حفلة الحريات لم تدم طويلا، إذ بعد 12 سنة من الاستقلال أي عام 1972، انقلب الجنرال ماثيو كيريكو، ثم أعلن إقامة نظام ماركسي، وأمم الشركات والبنوك، وطبق سياسات شيوعية أدت إلى فرار المستثمرين الأجانب والمواطنين والموظفين من البلاد، وقمع الحريات الفردية والجماعية وحرية التعبير.

وعن تلك الفترة يحكى آيكادو "كانت الأحزاب محظورة، والمعارضون في السجون، وكل الجرائد اختفت، وحدها الجريدة الدينية الكاثوليكية (الصليب) استمرت، ومع بداية الثمانينات ظهرت جرائد (خاصة) لكنها لم تكن في جوهرها سوى جرائد رسمية، حيث لم يكن تفعل سوى التسويق للنظام والجيش الذي كان يدير البلاد".

لكن جرائد من نوع مختلف كانت رائجة في ذلك الوقت، جرائد مجانية يجهل أصحابها وكتابها. وعلى النقيض من الجرائد المطبلة، كانت هذه تحرض ضد النظام، وعنها يقول آيكادو "عندما أغلقت الجرائد الخاصة، جزء من العاملين فيها تكلم كثيرا فدخل السجن، وجزء آخر ذهب ليعمل في القناة الوطنية الرسمية والإذاعات الرسمية، بينما أخذ شباب جامعيون يتوقون للحرية يكتبون صحفا من ورقتين أو ثلاث، ويطبعونها على حسابهم، ويوزعونها سرا بين أصدقائهم وأقاربهم، وكل من ينهي قراءتها يمررها إلى غيره، وهكذا كان لدينا عالمان: عالم ظاهر يدعي القوة بينما ينخره الفساد والظلم، وآخر باطن يغلي ويستعد للحظة الانفجار".

تتسم الحياة السياسية في بينين بالنشاط ويتمتع المواطنون بحرية كبيرة في التعبير عن مواقفهم السياسية . (الجزيرة)
تتسم الحياة السياسية في بينين بالنشاط ويتمتع المواطنون بحرية كبيرة في التعبير عن مواقفهم السياسية . (الجزيرة)

وفي سنة 1989، كانت دولة العسكر قد أفلست، فلم تتمكن من دفع رواتب الموظفين، وتحت ضغط الشارع الذي خرج محتجا، أعلن الحاكم العسكري الذي أمضى 17 سنة في الحكم إلغاء النظام الماركسي وتحرير السجناء السياسيين ووضع دستور جديد ديمقراطي يضمن الحقوق والحريات، وتنظيم الانتخابات. وفي نفس السنة، ظهرت جريدة "لوبينيون" )الرأي( وجرائد أخرى ساهمت -عندما نظمت الانتخابات سنة 1991- في فوز رئيس جديد وخسارة ماثيو كيريكو الذي كان أول رئيس أفريقي )جنوب الصحراء( يقبل خسارته في الانتخابات ويتنحى.

وكانت بنين محظوظة، حيث غادرها رئيس حكم ثلاثين سنة، دون حدوث قلاقل، بل وترك لها دستورا متقدما في مجال الحريات، عكس كثير من الدول المجاورة. وجاء في الدستور أن "الدولة تعترف وتضمن حرية التعبير والصحافة، من خلال مؤسسة مستقلة هي الهيئة العليا للسمعي البصري والتواصل، والتي يفصل شروطها قانون مؤسس". وبذلك تكون بنين أول دولة في المنطقة تنشئ مؤسسة عليا مستقلة لضمان حرية الصحافة، وهو ما جعلها مثالا للدول الأفريقية في مجال حريات الصحافة والديمقراطية.

وسنة 1992، اجتمع شباب صحفيون ليؤسسوا أول هيئة تجمع الصحفيين المستقلين وأسموها "اتحاد صحفيي الإعلام الخاص في بنين"، وكان من بينهم آيكادو الذي يقول لنا "بعد مغادرة كيريكو دون مشاكل، اطمأننا إلى أن البلاد تتقدم بالفعل، فانطلقنا متحمسين لإنشاء هيئة تجمع كل الصحفيين غير الحكوميين، للدفاع عن حرية الصحافة وعن حقوق الصحفيين، ولتكوين فضاء لتأهيل وتدريب الصحفيين، حيث في ذلك الوقت لم تكن هناك أية مدرسة للصحافة، وقد تحمس معنا صحفيون كبار وتطوع عدد منهم لتقديم دروس في الصحافة مجانا لأعضاء الاتحاد".

تجد الصحافة في بينين إقبالا كبيرا من قبل المواطنين (الجزيرة)
تجد الصحافة في بينين إقبالا كبيرا من قبل المواطنين (الجزيرة)

ويضيف آيكادو "وبعد ذلك بثلاث سنوات، وصل عدد الصحف المنشورة في بنين 64 صحيفة، وكان هذا الرقم كبيرا جدا بالنسبة لعدد السكان الذي بلغ حينها حوالي خمسة ملايين فقط، وكان الصحفيون يكتبون في كل المواضيع: الفساد وأخطاء المسؤولين والاغتيالات السياسية والتوترات العرقية. كنا نملأ بياض الصفحات بالمداد الأسود دون أن نخشى أي شيء".

وفي سنة 2002، صنفت منظمة "مراسلون بلا حدود" بنين في الرتبة الـ21 عالميا في حرية الصحافة، وكانت الدولة الأفريقية الأولى، وفي تلك السنة تجاوزت حتى النمسا واليابان (المرتبة الـ26) وإسبانيا (الـ29) وإيطاليا (الـ40). أما في سنة 2005، فقد تفوقت أميركا وفرنسا.

ويُحكى أن رئيس بنين الجديد قال في لقاء مع المؤسسات الإعلامية "إذا كان ذلك يساعدكم على العيش بشكل طبيعي، فلتكتبوا ما شئتم!". لكن آيداكو علق قائلا "أن تتوفر لديك حرية التعبير شيء، أما أن تتمكن من ممارستها فذلك شيء آخر! وبالنظر إلى هزالة رواتب معظم الصحفيين، يبقى السؤال مطروحا حول استقلالية الصحفي في الدول الفقيرة، وما إذا كان سيتمكن من القيام بدوره كما ينبغي حين يتطلب الأمر ذلك".

المصدر : الجزيرة