شعار قسم مدونات

العلمانية بين الأيديولوجيا والحيادية (4)

blogs العلمانية
وجود كل ذلك التوحش في بعض الأنماط العلمانية لا ينفي حتمية الأنماط المعتدلة منها (رويترز)

يلفت النظر في سياق البحث في العلمانية بين الحيادية والأيديولوجيا بعض المراجعات الفكرية القوية التي أجراها بعض المفكرين الغربيين على مسار العلمانية من هذه الزاوية بالتحديد، كتلك المراجعة الجريئة القوية التي أجراها إرفنج كريستول، وهو مثقف أميركي يهودي أصدر دراسة وصف فيها العلمانية بأنها "رؤية دينية حققت انتصارا على كل من اليهودية والمسيحية" (انظر: المسيري، العلمانية الجزئية والشاملة، ج1، ص101).

لكل مصطلح دلالته الجغرافية (جغرافية المصطلح)، وحمولته الفكرية والثقافة، وخلفيته المعرفية التي انبثق عنها، حتى وجدنا فلاسفة غربيين مثل تشالرز تايلور في دراسة له بهذا الخصوص يعلق على مطلب يورغن هابرماس المنادي بقطيعة معرفية بين العقل الديني والعقل العلماني مناديا بشطب أية إحالات دينية في بروتوكولات البرلمانات وغيرها من المؤسسات الدينية

جغرافية المصطلح وتناقض النماذج العلمانية

يعلق المسيري على مقولة كريستول آنفة الذكر بقوله: "وهو يصر على تسميتها "رؤية دينية"، أي رؤية شاملة (رغم رفض العلمانيين ذلك)، لأنها تحتوي مقولات عن وضع الإنسان في الكون وعن مستقبله، لا يمكن تسميتها علمية، ذلك لأنها مقولات ميتافيزيقية لاهوتية، وفي هذا الدين (العلماني) يصنع الإنسان نفسه أو يخلقها (تأليه الإنسان)، كما أن العالم ليس له معنى يتجاوز حدوده، وبوسع الإنسان أن يفهم الظواهر الطبيعية وأن يتحكم فيها، وأن يوظفها بشكل رشيد لتحسين الوضع الإنساني، ذلك أن المقدرة على الخلق، التي كانت من صفات الإله؛ أصبحت في المنظومة الدينية العلمانية من صفات الإنسان، ومن هنا ظهرت فكرة التقدم. وهذه العقيدة العلمانية هي الإطار المرجعي لكل من الليبرالية والاشتراكية" (المسيري، العلمانية الجزئية والشاملة، ج1، ص101-102).

نستخلص مما سبق أن لكل مصطلح -ولاسيما المصطلحات الكلية- دلالته الجغرافية (جغرافية المصطلح)، وحمولته الفكرية والثقافة، وخلفيته المعرفية التي انبثق عنها، حتى وجدنا فلاسفة غربيين مثل تشالرز تايلور في دراسة له بهذا الخصوص أشار إليها عزمي بشارة في موسوعته عن الدين والعلمانية يعلق -أي تايلور- على مطلب يورغن هابرماس المنادي بقطيعة معرفية بين العقل الديني والعقل العلماني، مناديا بشطب أية إحالات دينية في بروتوكولات البرلمانات وغيرها من المؤسسات الدينية بقوله -أي تايلور-: "إن هذا يجب أن ينطبق على أي فلسفة إلحادية أيضا، وكما أن الدولة لا يمكن أن تكون مسيحية أو مسلمة، كذلك لا يمكنها أن تكون ماركسية أو كانتية أو نفعية.." (بشارة، الدين والعلمانية، (الجزء الثاني/المجلد الأول)، ص 826-827).

وتايلور بهذا إنما يؤكد ما يذهب إليه عدد غير قليل من الباحثين بهذا الشأن بما مفاده أن من تسطيح القضايا الكبيرة القول بأن مصطلحا كالعلمانية لا يزيد عن كونه مجرد أداة فنية، أو إجراء إداري فحسب، يصلح لإدارة أي مجتمع، بمعزل عن خلفيته الدينية والحضارية والاجتماعية.

الأحزاب الليبرالية الغربية المعاصرة، لا تخلو من مثل هذا النمط وذاك، والنموذج الفرنسي بالخصوص أيا اختلفت أحزابه وأنماطه الإجرائية؛ يكاد يكون كله من نوع العلمانية الشاملة أو الصارمة، أو المتطرفة..

ومن جانب آخر فإذا كانت العلمانية مجرد أداة فنية أو إجرائية محايدة، لا علاقة لها بالفلسفة والأيديولوجيا فمعنى ذلك أن العلمانية لا تخرج عن صورة واحدة أو نموذج واحد، مهما اختلفت بيئتاها أو ثقافات القائمين عليها، أو عناوينها، على حين أننا نجدها نماذج عديدة مختلفة اختلافا حقيقيا وبنيويا كليا حينا وجزئيا حينا آخر.

وأبرز عنوانين عريضين لها ما يعرف بالعلمانية الكلية أو الشاملة أو الصارمة أو الصلبة في مقابل العلمانية الجزئية أو اللينة أو السلبية أو المتسامحة، أو المعتدلة، وكون العلمانية علمانيات مختلفة متناقضة على ذلك النحو، وبمعزل عن التسليم بدقة العنوان الأول ومفرداته المتقاربة؛ فإن كون الشامل منها أو المتطرف أو الصلب أو الصارم؛ يتسبب في اتخاذ إجراءات قاسية، بل ظالمة، وغير عادلة (غير حيادية) تلحق الضرر بطرف أو أطراف أخرى داخلية أو خارجية.

فذلك وحده كفيل بنقض فكرة أن العلمانية، لا تتجاوز كونها أداة فنية إجرائية محايدة، أيا كان الطرف الذي يحكم بها، لأنه يحق للباحث حينها أن يتساءل بدهشة: أين يذهب الحياد في حال وصول هذا النمط من العلمانية إلى سدة الحكم؟ وما الماركسية الستالينية والفاشية، والنازية والصهيونية وأخواتها مثل علمانية حزب بهاراتيا جاناتا في الهند، ولاسيما في ظل زعامة ناريندرا مودي، سوى دلائل على ذلك.

بل إن الأحزاب الليبرالية الغربية المعاصرة، لا تخلو من مثل هذا النمط وذاك، والنموذج الفرنسي بالخصوص أيا اختلفت أحزابه وأنماطه الإجرائية؛ يكاد يكون كله من نوع العلمانية الشاملة أو الصارمة، أو المتطرفة.. إلخ في حين أنه مصنف على النموذج العلماني الليبرالي، ولذلك نعود بالسؤال: هل لاتزال العلمانية في هذه الحال مجرد أداة إجرائية أو إدارية أو فنية حيادية في مثل تلك النماذج؟

إذا أصر البعض إلا أن وجود كل ذلك التوحش في بعض الأنماط العلمانية؛ لا ينفي حتمية الأنماط المعتدلة منها، ولذلك تبقى- عنده- وحدها الحل، بعيدا عن النماذج المتطرفة تلك، وبعيدا عن النماذج الدينية، بمختلف مسمياتها وأنماطها كذلك؛ فإن ذلك يصبح ازدواجا صارخا في المعايير، حيث من المعلوم إن الدين الإسلامي -وهو محل النقاش هنا- واحد، وإن جاءت أنماط التدين فيه مختلفة، من حيث وجود الوسطي المعتدل بحق، والمتشدد المغالي، وحتى التكفيري والعنيف.

فلماذا لا يشجع الوسطي المعتدل منها، وفق معايير الإسلام؟ -وليس مؤسسة راند الأميركية وما في حكمها التي سنأتي على الإشارة إليها لاحقا- ويتم تبنيه وحده، بوصفه الممثل لثقافة المجتمع وقيمه وفلسفته الاجتماعية، دون لجوء إلى التفكير باستيراد الحل العلماني، الغريب على بيئة المجتمع ومعتقداته وقيمه وثقافته؟ لكن دعاة الحل العلماني لا يلتفتون لذلك، ويسعون بكل ما أوتوا من إمكانات داخلية وخارجية وسبل- بما فيها العنف والانقلابات العسكرية والاستعانة بالدوائر الأجنبية- لفرض نموذجهم على المجتمع المسلم، من خارج تلك البيئة وقيمها وفلسفتها وثقافتها، رغم رفض الأغلبية لذلك، فهل يبقى ثمة مبرر منطقي أو أخلاقي لهم بعد هذا؟

وصفوة القول: إن التدقيق في المسألة العلمانية يؤكد أنه لا يوجد علماني لا يحمل رؤية ما مسبقة أو متشكلة: سافرة أو كامنة، مادية أو ميتافيزيقية أو معرفية، في التصور لطبيعة العلاقة مع الخالق والوجود والإنسان والمعرفة والمجتمع والقيم والحياة الدنيا والآخرة وأنماط العلاقات، بالسلب أو الإيجاب، اعترف بذلك وأقر، أم أنكر ونازع! وكمثال تطبيقي على ذلك سيناقش الجزء الخامس القادم -بعون الله- الموقف من "النسوية" على سبيل المثال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.