من الحب إلى الحداد.. هل كانت مي زيادة مجنونة؟

blogs مي زيادة
تجربة مي زيادة تغري الباحثين بإعادة التنقيب في تجربتها بحثا عن أسرار لم ترو (مواقع التواصل الاجتماعي)

كيف يمكن لقصة معروفة جدا، بل إنها تعد فضيحة في زمانها، تدخّل فيها ملوك وساسة ومثقفون، أن تظل غامضة وتبدو، مهما حقق باحثون في أرشيفها، كما لو كانت ناقصة وأن خلفها شيئا ما لم يكتشف بعد.

ينطبق هذا على قصة الجنون المزعوم للشاعرة والناقدة النسوية اللبنانية مي زيادة (1886-1941)، التي كانت موضوع نقاش محاضرة ألقتها الأكاديمية اللبنانية لمياء مغنيّة، افتراضيا، بتنظيم من "مركز الدراسات العابرة للمناطق" في برلين أمس، وخلالها وصفت أمر البحث في حياة مي زيادة صاحبة "ظلمات وأشعة" كما لو أنه "رحلة بحث عن كنز"، يتوهم الجميع أنه موجود في مكان ما.

تتذكر مغنيّة أنها كانت تلقي محاضرة حين وقفت امرأة من الحضور وسألتها عن "البنت التي أحبها جبران"، لقد نسيت اسم مي وتذكرت فقط أنها من أحبت جبران خليل جبران. فلماذا نعرف الكثير عن جبران، والقليل عن ميّ، ولماذا لم يتهم أحد جبران بالجنون رغم أنه اعتبر نفسه نبيا، بينما اعتبرت مي زيادة مجنونة لأنها كئيبة ومتشائمة؟

جنون الأديبة

جاءت المحاضرة بعنوان "النسويات المجنونات: مي زيادة والنهضة وعلم الاكتئاب في لبنان ما بعد الحرب العالمية الأولى"، وبدأتها الباحثة بـ "كيف انتهى الأمر بمي زيادة في العصفورية (مستشفى الأمراض النفسية في لبنان)؟ لقد عاشت تجارب متتالية من الفقدان، رحل والدها فجأة بسكتة قلبية عام 1928، ثم رحل جبران بعده بعامين، ثم ماتت والدتها. كانت تعاني من حزن وتعيش في حداد كبير، وقد وصف مثقفون جنونها بأنه حالة مبالغ فيها من الحداد".

عزلت مي زيادة نفسها وكانت كئيبة حزينة تكتب عن المآتم والجنائز، زاد الأمر سوءا حصولها على ميراث كبير طمع فيه أبناء عمومتها، الذين حبسوها في بيتها، فأضربت عن الطعام وكان هذا مبررا للادعاء بأن لديها ميولا انتحارية، وأدخلت مستشفى "العصفورية" بعد حقنها بالمورفين. خسرت مي العائلة ومكانتها كأديبة ومفكرة، وحقوقها القانونية كإنسان عاقل.

مكثت في "العصفورية" 10 أشهر ونصف الشهر، ثم نقلت إلى مستشفى نفسي آخر 10 أشهر أخرى، وبعد ضغوط كبيرة من شخصيات مهمة سياسية مثل ملك الأردن عبدالله الأول، وثقافية مثل أمين الريحاني، أخرجت إلى مستشفى الجامعة الأميركية وبقيت 3 أشهر. دخلت بعدها في معارك قانونية، فدعاها محاموها لإقامة محاضرة تثبت صحتها العقلية فكتبت "رسالة الأديب إلى أهله" لتثبت أنها ما زالت تلك المثقفة اللامعة، وبفضل ذلك ألغي عنها الحجر والوصاية القانونية عام 1938.

تقول مغنية "شُخّصت حالة مي بالاكتئاب اللاإرادي، وإن كنتم لا تعرفونه لا بأس، فهو مرض لا وجود له، ولم يكن جذابا مثل الهستيريا مثلا، لكن يفترض أنه اكتئاب يظهر مع تقدم العمر، ويفضي إلى المرض العقلي، وهو من أمراض تظهر في فترة محددة وكتعبير عن الزمن. مع الوقت أصبح الاكتئاب اللاإرادي مرتبطا بما يعرف بسن اليأس عند النساء".

تذكر المحاضرة "اعتُبر أن عقل المرأة يضعف مع انقطاع الحيض، وزاد شيوع هذا التصور مع زيادة ظهور المرأة في الفضاء العام وخاصة الفئة التي تخيب الآمال العائلية والاجتماعية، وهكذا قرأ الأطباء النفسيون مي عياديا، بصفتها عجزت اجتماعيا ودخلت سن اليأس دون أن تتزوج وتنجب".

كان اللقاء مع الطب النفسي بالنسبة للمرأة، ليس لقاء طبيب ومريضة، بل لقاء مع عائلة ومجتمع وخبراء نفسيين هم أبناء هذا المجتمع. توضح مغنية "الأمر لم يعد يتعلق بأن نثبت جنون أو عدم جنون (مي) زيادة، بل بتتبع الممارسات التي تجعل من نساء (خطيرات) مثلها ينزلقن لدرجة إدخالهن إلى المصحة ويصبحن مجنونات قانونيا واجتماعيا".

تكمل "إن قراءة التشخيص النفسي لمي زيادة اليوم يكشف العلاقة بين مجتمع الطب النفسي والمجتمع نفسه… كما أن قراءة تشخيص مي تجعلنا نفكر في حدود الحداثة نفسها في عصر النهضة الذي ربط المرأة بالجنون، والذي كشف في حالة مي مفارقة المرأة الحديثة فهي حرّة ومحجورة، أديبة ومجنونة".

تتابع مغنية "لم تطارد مي زيادة الأرشيف فقط بل طاردت أطباء العصفورية أنفسهم، وفي 1953 كتب طبيب متدرب عن مريضة فلسطينية اسمها "أدنا" أدخلت إلى المستشفى وشُخصت بالفصام في الشخصية عشية النكبة لتظل هناك 35 عاما، أخبرت أدنا المتدرب بأنها خُطفت من قبل أخيها ووضعت في المستشفى ظلما، وأنها ليست الوحيدة في هذا، كانت لديها نسخة من مجلة "صوت المرأة"، العدد الذي تناول قصة ميّ".

هل كانت مي زيادة مجنونة حقا؟

توضح مغنية أن هناك افتراضين شائعين، الأول مبني على العلاقة بين الجنون والعبقرية وهذه تميل إليها سلمى الحفار الكزبري في سيرة كتبتها حول ميّ بعنوان "مأساة النبوغ" جاءت في مجلدين وفيها سجلات مي الطبية، أما الثاني فمبني على العلاقة بين "الجنون والشذوذ" بتعبير مغنية، التي تبين "الشذوذ بمعنى الغرابة والاضطراب، فـ(مي) زيادة شاذة بطرق مختلفة، خجولة ولا تتحدث كالنساء الأخريات، وعنيدة وفخورة، لم تكن قادرة على تحقيق التوازن بين عبقريتها وذكائها وبين التوقعات الجندرية المتوقعة والطبيعية من النساء بمعنى الزواج وإنجاب الأطفال".

تلفت المحاضِرة إلى وجود رغبة وتوق لاستعادة مي زيادة اليوم عند الباحثين والباحثات، لكن أغلب هذه الاستعادات حسية وتشبه النميمة، القليل فقط درس ما وقع من زاوية نقدية، من ذلك قامت باسكال غزالي في كتابها "رحلة البحث عن مي" برحلة نسوية تحرّر بها ذكرى مي زيادة. وهناك كتاب "سجينة المشرق" للممثلة دارينا الجندي التي أودعت أيضا مستشفى للأمراض النفسية من قبل صهرها بعد جنازة والدها، حيث تجد دارينا الكثير من المواساة والعلاج في إعادة اكتشاف قصة مي زيادة، وفهم غضبها من زملائها من مثقفي النهضة الذين أداروا لها ظهورهم.

تتساءل مغنية "ماذا يمكن لقراءة تشخيص حالة مي زيادة أن تخبرنا، وهل تقول لنا شيئا مفيدا نظريا فعلا، لماذا نحتاج إلى قراءة أرشيف مي، هل أرشيف ميّ كان مفقودا، أو أن هناك محاولة لفهم الجنون نفسه والسر الذي خلفه من خلال قصة مي؟"، ثم -كما تقول المحاضِرة- لماذا تلك السرية الكبيرة والغموض حول قصة ليست سرا أساسا؟!

المصدر : الجزيرة