ناغورني قره باغ.. إقليم تتصارع فيه هويات من الإرث السوفياتي

ناغورني قره باغ إقليم يقع داخل أراضي أذربيجان التي تتنازع عليه مع أرمينيا الداعمة لانفصاله، وأدى هذا النزاع إلى حرب طاحنة بينهما، وتعد مشكلته من أطول وأعقد الأزمات التي تفجرت في مناطق الاتحاد السوفياتي السابق إثر انهياره عام 1991.

الموقع

يقع إقليم ناغورني قره باغ في الجزء الغربي من أذربيجان، على بعد نحو 270 كيلومترا من عاصمتها باكو، وتقدر مساحته بنحو 4400 كيلو متر مربع، أي ما نسبته 15% من مساحة البلاد، ويعترف به كجزء من جمهورية أذربيجان من قبل المجتمع الدولي وفقا لأحكام القانون الدولي.

ويتألف اسم الإقليم من مقطعين، هما "ناغورني" وتعني باللغة الروسية "الجبلية"، و"قره باغ" ومعناها باللغة التركية "الحديقة السوداء". لكن الأرمن يطلقون على الإقليم اسم "آرتساخ" ومعناها "غابة آر"، و"آر" هو "إله الشمس" عند الأرمن القدماء.

وعاصمة الإقليم هي "إستبانا كيرت" التي تقع على قمة جبلية ترتفع 750 مترا فوق سطح البحر، وأُنشئت بعد الثورة البلشفية في أكتوبر/تشرين الأول 1917 على موقع قرية خان كندي، وتغيَّر اسمها إلى "إستبانا كيرت" تيمنا بالزعيم الشيوعي البلشفي إستبانا شاهوميان، الذي يتوسط تمثاله ميدانا رئيسيا في المدينة ويحمل اسمه.

السكان

يبلغ عدد سكان ناغورني قره باغ (طبقا لإحصاء أجرته السلطات الأرمنية في يناير/كانون الثاني 2016) 148.1 ألف نسمة، وتشير تقديرات إلى أن نسبة الأرمن من السكان تمثل 95% والباقي من أعراق أخرى.

التاريخ

تعود جذور النزاع إلى القرن الـ19 عندما أبرمت معاهدة جولستان (1813) للسلام ومعاهدة تركمانشاي (1828) للسلام بين الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية الفارسية، واللتان بموجبهما تم توطين جماعي سريع للأرمن من إيران وتركيا في المنطقة، وتغير بالتالي التكوين العرقي فيها تماما. ثم تأسست جمهورية أذربيجان الديمقراطية وجمهورية أرمينيا عام 1918، وكان إقليم قره باغ تابعا لجمهورية أذربيجان الديمقراطية آنذاك.

في 1920، تم ضم البلدين إلى الحكم السوفياتي، وفي 1921 أكد المكتب القوقازي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي (البلاشفة) بقراره الصادر في الخامس من يوليو/تموز 1921 على بقاء ناغورني قره باغ داخل جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية، وليس "نقله" أو "منحه" أو "ضمه" لأذربيجان، الأمر الذي يثبت أن الإقليم كان جزء من أذربيجان وتم تأكيده مرة أخرى بقرار المكتب المذكور أعلاه، على أن يظل داخل أذربيجان.

كان قرار الخامس من يوليو/تموز 1921 هو القرار النهائي والملزم، والذي اعترفت به أرمينيا نفسها على مدار السنوات. وفي عام 1923 مُنح لإقليم ناغورني قره باغ حكم ذاتي داخل أذربيجان.

عندما نالت جمهورية أذربيجان استقلالها عن الاتحاد السوفياتي، اعتُبرت الحدود الإدارية السابقة لجمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية، والتي شملت أيضا منطقة ناغورني قره باغ، حدودا دولية تجب حمايتها بموجب القانون الدولي (مبدأ الحدود الموروثة وقد تم التأكيد على هذا المبدأ بشكل قاطع وغير مشروط في قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن النزاع بين أرمينيا وأذربيجان).

وبعد احتلال روسيا البلشفية جمهورية أذربيجان الديمقراطية تم ضم الجزء الغربي من أويزد زنغازور لأذربيجان إلى أرمينيا عام 1923 ونتيجة لذلك، تم عزل منطقة ناخشيفان عن الجزء الرئيسي لأذربيجان.

في نهاية عام 1987، أعلنت الجمهورية الأرمنية الاشتراكية السوفياتية عن مطالبتها بأراضي منطقة ناغورني قره باغ المتمتعة بالحكم الذاتي التابعة لجمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية.

وعندما انهار الاتحاد السوفياتي، هجمت أرمينيا على منطقة ناغورني قره باغ والمناطق السبع المجاورة لها وسيطرت عليها.

في عام 1993 اعتمد مجلس الأمن الدولي القرارات 822 (1993) و853 (1993) و874 (1993) و884 (1993)، التي تدين استخدام القوة ضد أذربيجان واحتلال أراضيها وإعادة التأكيد على سيادة ووحدة أراضي أذربيجان وحرمة حدودها المعترف بها دوليا.

وأكد مجلس الأمن من جديد في هذين القرارين أن منطقة ناغورني قره باغ جزء من أذربيجان، ودعا إلى انسحاب فوري وكامل وغير مشروط للقوات الأرمينية من جميع الأراضي التي تسيطر عليها.

وتزامنا مع ذلك، أعلن أرمن الإقليم الانفصال عن أذربيجان، فأرسلت حكومة أذربيجان قوات إليه محاولة استعادته. وساندت أرمينيا أرمن قره باغ؛ فبدأت الحرب التي أودت بحياة أكثر من 30 ألف شخص من الأذريين والأرمن.

وفضلا عن الخسائر في الأرواح؛ أرست الحرب حقائق ديموغرافية وجغرافية جديدة؛ فقد تسبب الصراع في حركة لجوء في الاتجاهين قُدرت بأكثر من 1.2 مليون، أغلبهم من الأذريين، وبسببها أصبح أغلب سكان الإقليم من الأرمن.

وإضافة إلى سيطرة الأرمن على الإقليم؛ انتزعوا 7 مناطق حدودية أذرية أخرى (تقدر بـ20% من أراضي أذربيجان)، أمّنت لهم تواصلا طبيعيا عبر ممر "لاتشين" مع دولة أرمينيا، وقد تحمل أرمن المهجر تكاليف تعبيد هذا الممر الذي يبلغ طوله 60 كيلومترا.

وبينما تطالب أذربيجان بعودة الإقليم إلى سلطتها، وتعرض على الأرمن فيه سلطات واسعة في سياق حكم ذاتي حلا للأزمة، تدعم أرمينيا انفصاله عن أذربيجان، وتقدم مساعدات لسلطته الانفصالية التي غيّرت اسمه إلى "آرتساخ".

وفي مسعى لوقف الحرب، أصدر مجلس الأمن عام 1993 قراره رقم 822، وطالب فيه القوات الأرمينية "بالانسحاب من الأقاليم المحتلة في أذربيجان"، لكن القوات الأرمينية لم تمتثل للقرار.

وانتهى القتال بين أذربيجان وأرمينيا على ناغورني قره باغ عام 1994، عندما تم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار. وما زال الجانبان رسميا في حالة حرب لأنهما لم يوقعا على معاهدة سلام.

وفي عام 2006، أقر أرمن الإقليم الوليد دستورا كرسه باعتباره "جمهورية" مستقلة ومنفصلة عن أذربيجان، واختاروا مدينة "إستبانا كريت" عاصمة لهم.

وتحظى "الدولة الجديدة" بدعم من أرمينيا وروسيا، التي تستضيف أرمينيا إحدى قواعدها العسكرية القليلة في الخارج، بمقتضى تحالف أمني بينهما.

ويعترف المجتمع الدولي بإقليم ناغورني قره باغ بوصفه جزءا من أذربيجان بموجب القانون الدولي، ورغم إعلان القوى الأرمنية المسيطرة عليه انفصاله وقيام "جمهورية" فيه، فإنها لم تنل اعتراف أي دولة -بما في ذلك أرمينيا- باستقلال هذا الإقليم.

ولطالما تعثرت الجهود المبذولة لإحلال السلام النهائي في الإقليم بسبب قضايا شائكة، مثل قضية المناطق الواقعة خارجه، والتي تحتلها القوات الأرمينية.

وتشكل عدة دول -على رأسها روسيا والولايات المتحدة وفرنسا- "مجموعة مينسك" المفوضة دوليا بالعمل وسيطا لحل هذا النزاع، ونظمت المجموعة عدة جولات من المحادثات لهذا الغرض، لكنها لم تكلل بالنجاح.

ففي 24 يونيو/حزيران 2011، عقد الرئيسان الأرميني سيرج سركسيان والأذربيجاني إلهام علييف محادثات في مدينة قازان الروسية برعاية من الرئيس الروسي آنذاك ديمتري ميدفيديف.

وأخفق المجتمعون في التوصل إلى وثيقة إطار تلزم طرفي النزاع برفض استخدام القوة لحله وتضع تسوية لمشكلته، لكنهم أكدوا -في بيان أصدروه عقب الاجتماع- ضرورة التوصل إلى تفاهم متبادل حول مجموعة من القضايا ستساعد على خلق ظروف مواتية للموافقة على المبادئ الأساسية.

وفي الخامس من يوليو/تموز 2015، أعلنت أذربيجان تمكن قواتها العسكرية من إسقاط طائرتين من دون طيار تابعتين للجيش الأرميني، قالت إنها اكتشفتهما لدى قيامهما بجولات استطلاع فوق المواقع الأذرية بمنطقة "ترتر" على خط الجبهة بين البلدين.

وتكثفت الاشتباكات في الأشهر التالية لذلك، إلى درجة دفعت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا -التي تضم البلدين وترعى محادثات السلام بينهما بواسطة "مجموعة منسك"- إلى التحذير من "أن الوضع القائم لم يعد محتملا".

وأدى تطور الأحداث إلى أن استخدمت أذربيجان في ديسمبر/كانون الأول 2015 -للمرة الأولى منذ 20 عاما- دبابات ضد مواقع الانفصاليين في ناغورني قره باغ.

وفي الثاني من أبريل/نيسان 2016، تبادل الجانبان اتهامات بانتهاك وقف إطلاق النار على خط التماس، مما أدى إلى سقوط عدد من الضحايا، وهدد باشتعال الحرب بينهما، لكن وزارة الدفاع الأذرية أعلنت لاحقا وقف إطلاق النار من جانب واحد، مهددة بالرد في حال تعرض قواتها للهجوم مجددا.

وفي 27 سبتمبر/أيلول 2020، لاحت نذر الحرب بين أذربيجان وأرمينيا من جديد مع اندلاع جولة عنيفة من التصعيد العسكري في الإقليم، حيث سقط قتلى وجرحى من الجانبين، وأعلن الانفصاليون الأرمن حالة الحرب والتعبئة العامة بالإقليم، وسط دعوات إقليمية ودولية لوقف القتال.

وأعلن رئيس الإدارة الأرمنية الانفصالية أرايك أرتونيان حالة الحرب والتعبئة العامة في جميع أراضي الإقليم، وقال -خلال جلسة طارئة للبرلمان في عاصمة الإقليم- إنه قرر إعلان الأحكام العرفية وتعبئة جميع الذكور القادرين على الخدمة العسكرية ممن تتجاوز أعمارهم 18 عاما.

وأعلنت السلطة الأرمنية مقتل 10 من العسكريين الأرمن على الأقل من قوات الإقليم نتيجة القصف الأذري. كما ذكر أرتونيان أن دمارا كبيرا لحق بمنشآت مدنية، وأشار إلى مقتل امرأة وطفلها جراء القصف، في حين قالت وزارة الدفاع الأذرية في بيان إن الجيش الأرميني هو الذي بدأ "عملية استفزاز واسعة النطاق في ساعات الصباح الأولى، عبر إطلاق النيران بالأسلحة الخفيفة والثقيلة ضد مواقع أذرية عسكرية ومدنية".

وفي سبتمبر/أيلول 2023 شنت باكو عملية عسكرية في إقليم ناغورني قره باغ خلفت مقتل ما لا يقل عن 200 شخص وإصابة مئات آخرين، إضافة إلى إجلاء أكثر من 10 آلاف -بينهم نساء وأطفال- من أماكن إقامتهم إلى مناطق أخرى، وفق ما أعلن مسؤول في الإقليم.

في المقابل، قالت أرمينيا إن 32 شخصا قتلوا وأصيب أكثر من 200 في أقل من 24 ساعة خلال العملية العسكرية. وبعد "وساطة" روسية وافق المسلحون الأرمن على إلقاء السلاح بعدها بيوم، وأعلنت أذربيجان بسط سيادتها على الإقليم.

الاقتصاد

يعمل سكان إقليم ناغورني قره باغ بصورة رئيسية في الزراعة، مستفيدين من تعدد الأنهار ومياه الأمطار التي تهطل صيفا في الري وتوليد الطاقة الكهربائية، كما يمارس بعضهم أنشطة اقتصادية من قبيل التنمية الحيوانية والصناعات الخفيفة.

وتتلقى السلطات الانفصالية التي تدير الإقليم مساعدات من أرمينيا والجاليات الأرمينية في بلاد المهجر. وجعلت الولايات المتحدة الأميركية -بتأثير من مجموعات الضغط الأرمينية فيها- أرمينيا ثاني أكبر دولة مستفيدة من معوناتها التي تقدمها إلى بعض دول العالم، ولا يتقدم عليها في ذلك سوى إسرائيل.

وتسعى هذه السلطات لجذب استثمارات خارجية لتنمية قطاعات متعددة، مثل البناء ومناجم الذهب والنحاس والاتصالات والبنوك والفندقة، والصناعات الزراعية مثل تصنيع النبيذ؛ وتأتي هذه الاستثمارات غالبا من روسيا وأميركا وفرنسا وبلجيكا وسويسرا وأستراليا.

Agdam Mosque in the Nagorno-Karabakh region in Azerbaijan
مسجد أغدام في ناغورني قره باغ (شترستوك)

المعالم

من أهم معالم إقليم ناغورني قره باغ مدينة "شوشه" التي يسميها الأرمن "شوشي"، وتُعد مكانا مقدسا لدى الأذريين، مما يجعل تحديد وضعها النهائي العنصر الحاسم في التسوية.

تبعد شوشا عن عاصمة الإقليم إستبانا كيرت 13 كيلومترا، وتقع على ارتفاع 2500 متر فوق سطح البحر، وهي موطن الشعراء والكتاب والأدباء الأذريين، وكانت الأغلبية الساحقة من سكانها قبل الحرب منهم، قبل أن يحتلها الأرمن بمساهمة جنرال روسي شارك في الحرب السوفياتية الأفغانية (1980-1989).

وشهدت المدينة خلال الحرب (1991-1994) معارك شرسة بين الطرفين، انتصر فيها الأرمن، فبسطوا سيطرتهم عليها بالكامل. وبينما لحق دمار شامل بمساجد المدينة باستثناء واحد أبقاه الأرمن معافى دليلا على "احترامهم دور العبادة"، أُعيدت الحياة إلى الكنائس التي كانت مغلقة في الزمن الشيوعي.

ومن معالم الإقليم كذلك قرية "فانك" الواقعة شمال غرب عاصمته، وتقع بالقرب منها أشهر وأهم الكنائس لدى الأرمن في كل أنحاء العالم.

ويقول الأرمن إن العمل في بنائها بدأ عام 1210م وأُكمل عام 1240م، وإنها عُمدت بوجود 750 مؤمنا، وتوجد تحت مذبحها جمجمة رجل الدين "أوهانيس" مع ذخائر للعديد من رجال الكنيسة، ويعتقد الأرمن أن هؤلاء لم يحموا هذه الكنيسة فقط، بل إقليم ناغورني قره باغ برمته.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية