كوسوفو.. الطريق نحو تقرير المصير

undefined

محمد عبد العاطي

يقف إقليم كوسوفو ذو الأغلبية الألبانية المسلمة حاليا عند مفترق طرق، إذ يصر قادته على إعلان الاستقلال من طرف واحد بعد تعثر المفاوضات الطويلة التي جرت بينهم وبين صربيا التي تدعي أحقيتها في الإقليم وتزعم أنه جزء من ترابها الوطني ولا يمكنها التنازل عنه مهما كان الثمن.

صربيا تهدد وتتوعد، وتؤيدها روسيا التي أعلنت أنها ستستعمل حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي إذا تطلب الأمر ذلك، وتقول "إن الاستقلال ليس هو الحل، وإنما المفاوضات هي السبيل نحو الاستقرار"، في حين تؤيد الولايات المتحدة وأغلبية دول الاتحاد الأوروبي توجه ألبان كوسوفو نحو الاستقلال، وتستعد بعثة من الاتحاد الأوروبي لتولي مسؤولية إدارة الإقليم ريثما تستقر الأوضاع جنبا إلى جنب مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي سيظل يعمل هناك في إطار القوة الدولية المعروفة بـ"كيفور".

الأحداث تتطور سريعا، والمشكلة مرشحة في الأسابيع القادمة إما نحو الانفراج أو مزيد من التأزم.

في هذا الملف المعلوماتي المختصر حديث عن جذور المشكلة.. كيف نشأت وكيف تطورت؟

ونظرة على هذا الإقليم.. سكانه بلغاتهم ودياناتهم وأعراقهم، وأرضه بتضاريسها ومواردها.

وفيه أيضا اقتراب من أساليب إدارته عسكريا ومدنيا، ومحاولة لفهم مواقف الأطراف الفاعلة بشكل مباشر وهي: ألبان كوسوفو وصربيا وروسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

هذا فضلا عن إشارة إلى موقف العالم الإسلامي مما يحدث لهذا الإقليم وما ينتظر مصيره في المستقبل المنظور.

كوسوفو

كوسوفو إقليم تديره حاليا الأمم المتحدة، يعرف في الجغرافيا السياسية بـ"الأرض الحبيسة" لأنه غير مطل على أي منفذ بحري. تحيط به صربيا والجبل الأسود ومقدونيا وألبانيا. مساحته تزيد قليلا عن عشرة آلاف كيلومتر مربع، عاصمته بريشتينا، وكان يسمى في الماضي "داردانيا" أي أرض الكمثرى، ويطلق عليه باللغة الصربية "كوسوفو" وباللغة الألبانية "كوسوفا".

الأرض في كوسوفو تغلب عليها السهول الخضراء المحاطة بالجبال والتلال، وتجري فيها أربعة أنهار، وفيها 17 بحيرة، ومع ذلك فإن غالبية السكان فقراء وتبلغ نسبة البطالة بينهم 40%.

عدد سكان كوسوفو حوالي مليونين، 90% منهم ألبان جلهم مسلمون، و5% صرب، و5% قوميات وأعراق أخرى.

نصف عدد الكوسوفيين تقل أعمارهم عن عشرين عاما، وأكثر من ثلاثة أرباعهم تقل أعمارهم عن 35 عاما.

لمحة تاريخية

ظلت كوسوفو خاضعة للحكم التركي طيلة خمسة قرون منذ أن فتحها السلطان العثماني مراد الأول عام 1389 حتى هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى.
 
بدأت صربيا السيطرة على إقليم كوسوفو عام 1912 وبعد سلسلة من المؤتمرات الدولية أهمها سان ستيفانو، وبرلين، ولندن، وباريس آل الإقليم رسميا في نهاية المطاف إلى صربيا وأصبح جزءا منها.

خضعت كوسوفو في الحرب العالمية الثانية لألبانيا التي كانت خاضعة بدورها لإيطاليا.

بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدا في عام 1946 ضم إقليم كوسوفو إلى يوغوسلافيا الاتحادية وفي عهد الرئيس جوزيف بروز تيتو ووفق دستور 1947 عاشت كوسوفو حكما ذاتيا ضمن إطار اتحاد الجمهوريات اليوغسلافية إلى أواخر السبعينيات من القرن العشرين.

إلغاء الحكم الذاتي وإعلان الجمهورية

في عام 1989 ألغى الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به ألبان كوسوفو، وحكم الإقليم بالحديد والنار مستخدما أساليب بوليسية وقمعية عنيفة.

نظم أهالي كوسوفو أنفسهم لمواجهة الاضطهاد الذي يتعرضون له بعد إلغاء الحكم الذاتي، واتخذ تنظيمهم طابعا قوميا أكثر منه دينيا، وقادهم آنذاك حزب الاتحاد الديمقراطي الألباني الذي كان يترأسه الأديب والأستاذ الجامعي إبراهيم روغوفا، وكان يتخذ من النضال السياسي السلمي منهجا له.

في يوليو/تموز 1990 أجرى أهالي كوسوفو استفتاء عاما كانت نتيجته معبرة عن رغبة الغالبية العظمى في الانفصال عن صربيا وإقامة جمهورية مستقلة. وفي سبتمبر/أيلول من العام نفسه نظم الألبان إضرابا واسعا يشبه عصيانا مدنيا لصربيا.

في الرابع والعشرين من مايو/أيار 1992 انتخب الألبان روغوفا رئيسا لجمهوريتهم التي أطلقوا عليها اسم "جمهورية كوسوفو"، ولم تعترف بها صربيا.

حاول إبراهيم روغوفا المعروف بنهجه السلمي كسب تعاطف المجتمع الدولي ونيل اعترافه بجمهورية كوسوفو لكنه لم ينجح فكون الشباب الألباني خلايا عسكرية سموها جيش تحرير كوسوفو.

كان عام 1998 هو العام الذي لفت أنظار العالم بقوة إلى خطورة الأوضاع في كوسوفو حيث دخل جيش تحرير كوسوفو في صراع مع الجيش الصربي، فارتكب الأخير مجازر وحشية ضد المدنيين الألبان، مما أجبر المجتمع الدولي على التحرك.

مفاوضات رامبوييه وانسحاب صربيا

دخل الألبان والصرب برعاية دولية خاصة من حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مفاوضات عقدت في قصر رامبوييه بفرنسا في فبراير/شباط من عام 1999، ووافق الطرف الألباني على الخطة الدولية لإحلال السلام في كوسوفو التي كان من أفكارها الرئيسية وضع كوسوفو لفترة من الوقت تحت إدارة الأمم المتحدة، لكن الصرب رفضوا الخطة.

شنت قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في صباح الرابع والعشرين من مارس/آذار عام 1999 حملة جوية ضد القوات الصربية لإرغامها على الانسحاب من كوسوفو، وبعد 48 يوما من الغارات المتواصلة نجح الناتو في ذلك وأجبر الصرب على الانسحاب.

لكن خلال فترة الحرب زادت جرعات انتقام الجيش الصربي من ألبان كوسوفو فارتكب في حقهم ما وصفه خبراء القانون الدولي بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

ضريبة الاستقلال

انسحب الصرب بفضل ضربات جيش تحرير كوسوفو والضربات الجوية للناتو، وتحرر الإقليم من حكم ميلوسوفيتش الدموي لكن كان ثمن هذا التحرر غاليا، فوفقا لإحصائيات لجنة حقوق الإنسان الكوسوفية فإنه قد تم:

  • قتل أكثر من 12 ألف ألباني (العدد كل فترة يتزايد باكتشاف المزيد من المقابر الجماعية، حيث اكتشف منها أكثر من 550 مقبرة، كل واحدة منها تضم ما بين خمسين و150 قتيلا، وبين هذه المقابر ما يضم رفات 170 عائلة قتل جميع أفرادها). 
  • تدمير وإحراق 128 ألف بيت. 
  • فقدان حوالي 3200 ألباني لا يعرف لهم أثر حتى الآن. 
  • اغتصاب أكثر من 3000 فتاة وسيدة. 
  • تعذيب عشرات الآلاف في معسكرات جماعية.

قرار 1244 وإدارة الإقليم

بعد انتهاء الحرب في منتصف عام 1999 أصدر مجلس الأمن قراره رقم 1244 الذي أشار فيه إلى أن إقليم كوسوفو جزء من يوغوسلافيا السابقة وحدد شكل ومهمات الإدارتين الدوليتين العسكرية والمدنية المكلفتين بإدارة الإقليم.

ووفقا للقرار الأممي فقد تشكلت قوة دولية تعرف باسم "كيفور" مؤلفة من خمسين ألف جندي، ينتمون إلى 39 دولة، ويتوزعون على خمس مناطق تتولى قيادتها خمس دول، هي: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا. ومهامها تتلخص في:

  • ضمان الأمن.
  • مراقبة الحدود.
  • تسهيل عمليات الإغاثة الإنسانية.

ولم يحدد قرار مجلس الأمن جدولا زمنيا للانتهاء من هذه المهام، ولم يضع تاريخا لسحب تلك القوات. 

أما الشؤون المدنية فتديرها هيئة متخصصة تعرف باسم "أونميك" يترأسها ممثل عن الأمم المتحدة، يعد هو الحاكم الفعلي لكوسوفو، ودورها تنفيذي، وهي أشبه بإدارة انتقالية في إطار حكم ذاتي ريثما يتم التوصل إلى صيغة نهائية للحكم.

تنقسم هذه الإدارة المدنية إلى أربعة أفرع:

  1. فرع الأمن، ويتولى مسؤوليته ألفان وخمسمائة رجل شرطة، قدموا من بلدان مختلفة.
  2. فرع المساعدات الإنسانية، وتتولاه المفوضية العليا للاجئين.
  3. فرع بناء المؤسسات وترسيخ الديمقراطية، وهو تحت إشراف منظمة الأمن والتعاون الأوروبي.
  4. فرع الاقتصاد، ويتحمل مسؤوليته الاتحاد الأوروبي.

هذه الإدارة المختلفة تمارس عملها بالتعاون مع حكومة محلية مؤقتة تم تشكليها إلى حين إجراء انتخابات عامة في البلاد، وبالتنسيق مع ما يزيد عن ثلاثمائة من المنظمات غير الحكومية.

وفي مطلع عام 2007 أيدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خطة المبعوث الأممي مارتي أهتساري التي تمنح الإقليم استقلالا مشروطا تحت إشراف دولي (أوروبي في الأساس) وعلى أساس هذه الخطة سيتم إرسال البعثة الأوروبية التي ستدير شؤون الإقليم.
 
ورغم أن خطة أهتساري لم تشر صراحة إلى الاستقلال فإنها أوضحت أن من حق إقليم كوسوفو أن يكون له دستور ونشيد وطني وأن يخضع مدة 120 يوما لإشراف دولي.
 
وقد رفضت صربيا الخطة في حين قبلها الألبان وحالت روسيا دون التصويت عليها في مجلس الأمن ولا تزال هذه الخطة هي العامل الأبرز في تحديد مصير الإقليم في المرحلة المقبلة.
 
العلاقة مع العالم الإسلامي
تواجه كوسوفو مشكلة مزمنة تهدد دوما أي صيغة للسلام بعدم الفعالية، هذه المشكلة تتمثل في مشاعر الكراهية والحقد الدفين المتوارث عبر أكثر من ستمائة عام بين الأقلية الصربية والأغلبية الألبانية، وهو ما يتخذ أشكالا مختلفة من الصراع ويتسبب باستمرار في عدم الاستقرار، ويزيد من تفاقم مشكلات الكوسوفيين ضعف صلة العالم الإسلامي بهم، حيث يغلب عليها الفكر الإغاثي الذي لا يتناسب مع عظم التحديات التي تواجههم.
 
عند مفترق طرق
يصر ألبان كوسوفو على الاستقلال وهددوا بإعلانه من طرف واحد بعد تعثر المفاوضات التي جرت بينهم وبين الصرب، ويشجعهم على ذلك موقف الولايات المتحدة وأغلبية دول الاتحاد الأوروبي التي تستعد لإرسال بعثة عسكرية وأمنية لحفظ الأمن وإدارة الإقليم.
 
غير أن الطريق إلى هذا الاستقلال ليس ممهدا، خاصة بعد فوز الزعيم الصربي المتشدد تومسلاف نيكوليتش في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة التي جرت يوم 20 يناير/كانون الثاني 2008 والذي صرح بأن "على صربيا التخلي عن الاتحاد الأوروبي إذا ما أعلنت كوسوفو استقلالها وأيدتها دول الاتحاد".
 
ويزيد من صعوبة موقف ألبان كوسوفو الاعتراض الروسي وإعلان موسكو اعتزامها استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي إذا تطلب الأمر ذلك. وقد عبر الرئيس فلاديمير بوتين صراحة عن ذلك حينما قال "إن أي إقدام على إعلان استقلال إقليم كوسوفو الصربي هو بمثابة خطوة غير شرعية وغير أخلاقية، وإن روسيا لن تدعم أي إعلان استقلال من طرف واحد حتى لو كان مدعوما من قبل المجتمع الدولي".
ووجهة النظر الروسية في هذا الشأن تتلخص في أن إعلان الاستقلال من طرف واحد "لا يمثل حلا للمشكلة القائمة" على حد وصف بوتين، وإنما الحل من وجهة نظره يكمن في المفاوضات التي "يجب أن تستمر حتى يتم التوصل إلى اتفاق يرضي سكان الإقليم من صربيين وألبان".
 
في ظل هذه الخطوط المتشابكة وتلك الظلال المتداخلة ينتظر سكان إقليم كوسوفو قرارات تاريخية من المقدر أن ترسم ملامح مستقبلهم السياسي في الفترة القادمة. 
المصدر : الجزيرة