العالم المصري عصام حجي للجزيرة نت: العناصر الثقيلة في دلتا نهر النيل خطر صحي وبيئي داهم

انتشار هذه الملوثات يُعزى إلى إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي ومياه الصرف الصحي البلدية والصناعية من دون معالجة، فضلا عن أن الاستمرار في بناء السدود العالية سيتسبب في تفاقم حتمي لهذا التلوث

Egypt with surrounding region during sunrise as seen from Earth's orbit in space. 3D illustration with realistic planet surface, clouds and city lights. Elements of this image furnished by NASA.; Shutterstock ID 444689929; purchase_order: ajnet; job: ; client: ; other:
الدراسة ألقت الضوء على آثار إعادة استخدام مياه الصرف غير المعالج ومدى التلوث الناتج عنه (شترستوك)

يتضح تأثير التلوث بشكل خاص في مصر، الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان والأكثر جفافًا في مجرى النيل، والتي تعتمد كليا على النهر كمصدر وحيد لمياه الشرب وري المحاصيل.

وتواجه البلاد حاليًا واحدة من أعلى حالات العجز في ميزانية المياه في أفريقيا -منذ عام 2000 تحديدا- بعد عقود من محاولات تعويض المياه المتناقصة من خلال إعادة استخدام مياه الصرف الصحي، التي لم تتم دراسة عواقبها حتى الآن.

وتلقي دراسة جديدة -بقيادة العالم المصري عصام حجي- الضوء على آثار إعادة استخدام مياه الصرف غير المعالج ومدى التلوث الناجم عنه، إضافة إلى تحديد الآثار البيئية للسدود الجديدة على مجرى النهر.

فقد قام الفريق بتحليل مستويات التلوث لـ8 عناصر ثقيلة في 20 عينة من قاع دلتا نهر النيل فرعي دمياط ورشيد، ونشرت الورقة البحثية في دورية "إيرثز فيوتشر" (Earth’s Future) في 7 مارس/آذار الجاري.

وبحسب البيان الصحفي المنشور على موقع "فيز دوت أورغ" (Phys.org) في 9 مارس/آذار الجاري، تبرز الدراسة -التي كانت ثمرة تعاون مصري-أميركي ضم باحثين من كلية فيترباي كاليفورنيا وجامعة المنيا والمعهد القومي لعلوم البحار والمصايد بالقاهرة- خطورة هذا التلوث واسع النطاق وتآكل السواحل وتسرب مياه البحر الذي يتحدى استدامة دلتا النيل كمصدر أساسي لأمن مصر الغذائي وتداعياته على صحة أكثر من 50% من سكان مصر.

وفي حوار مع الجزيرة نت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تحدث قائد الدراسة الدكتور عصام حجي الباحث بكلية الهندسة "يو إس سي فيترباي" بجامعة جنوب كاليفورنيا (USC Viterbi School of Engineering)، عن الدافع وراء الشروع في هذا الجهد البحثي ونتائجه والحلول المقترحة لتلافي مخاطر التلوث المتفاقم على التوازن البيئي في دلتا نهر النيل وأثره على صحة 60 مليون مصري.

الدكتور عصام حجي - من صفحته على فيس بوك
الدراسة قادها الدكتور عصام حجي الباحث بكلية "يو إس سي فيترباي" بجامعة جنوب كاليفورنيا (صفحة عصام حجي على الفيسبوك)
  • ما الدافع الأول لتحديد المنطقة محل الدراسة؟

تمثل دلتا نهر النيل منطقة مهمة جدا للاقتصاد المصري والنظام البيئي في جنوب المتوسط، وقد تعرضت الدلتا للعديد من التغيرات البيئية نتيجة للأنشطة البشرية المختلفة والتوسع السريع للنطاقات الحضرية على حساب مساحات الأراضي الزراعية والمجاري المائية، وبالتالي كان لا بد من عمل تحليل إقليمي لاستجابة الرواسب القاعية لنهر النيل في الدلتا لتلك المستجدات.

وبالرغم من أهمية تقييم جودة تربة فرعي نهر النيل بالدلتا، ظلت الدراسات السابقة بعيدة عن التقييم الواسع لتركيزات العناصر الثقيلة دون استخدام منهجية بحثية متقدمة لفهم مصادر التلوث وعلاقة الملوثات ببعضها وتأثيرات العمليات السطحية المختلفة بالدلتا على جودة التربة، ولذلك فقد قام الفريق البحثي للدراسة بتغطية تلك النقاط المهمة.

وتُظهر تركيزات العناصر بالنسبة لمعظم المحطات في فرع رشيد، زيادة تدريجية باتجاه الشمال مع زيادة المسافة من نقطة الانقسام لنهر النيل عند قناطر الدلتا. ومن ناحية أخرى، لوحظت زيادة باتجاه الشمال في فرع دمياط لعناصر الزنك والمنغنيز والنحاس فقط، بينما تُظهر تركيزات النيكل والحديد والكادميوم والكروم والرصاص توزيعا عشوائيا من دون اتجاه واضح.

وتشير التحاليل الفيزيائية والجيوكيميائية أيضا إلى تزايد مستويات التلوث في الطمي المتراكم في قاع نهر النيل، حيث أكدت وجود عناصر ثقيلة مثل الكادميوم والنيكل والكروم والنحاس والرصاص والزنك.

ووفقًا للدراسة، فإن انتشار هذه الملوثات يُعزى بشكل أساسي إلى إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي ومياه الصرف الصحي البلدية والصناعية دون معالجة، إضافة إلى أن الاستمرار في بناء السدود العالية سيسبب تفاقما حتميا لهذا التلوث وبالتالي يتسبب بتهديد حقيقي لصحة المواطنين.

وتُبرز نتائج الدراسة أثر عدم معالجة المياه المعاد تدويرها بشكل صحيح على النظام البيئي من زيادة في تركيز هذه العناصر واندماجها في الطمي المتراكم في قاع النهر، مما يؤدي لا محالة إلى تفاقم هذا التلوث مع مرور الوقت على عكس الملوثات العضوية التي تتحلل بشكل طبيعي.

A general view of the Grand Ethiopian Renaissance Dam (GERD) in Guba, Ethiopia, on February 20, 2022. - Ethiopia began generating electricity from its mega-dam on the Blue Nile on Sunday, a milestone in the controversial multi-billion dollar project. (Photo by Amanuel SILESHI / AFP)
عصام حجي يقول إن التلوث الناجم عن زيادة تركيزات العناصر الثقيلة يتفاقم بسبب بناء السدود مثل سد النهضة (الفرنسية)
  • على ذكر آثار السدود في الدراسة، ما المخاطر البيئية المتوقعة لها وتضارب الآراء حول هذه المخاطر؟

من المتوقع أن يتفاقم هذا التلوث الناجم عن زيادة تركيزات العناصر الثقيلة بسبب بناء السدود مثل سد النهضة على مجرى نهر النيل، حيث تؤثر السدود الكبيرة التي تم بناؤها في أعلى مجرى النهر على تدفق الرواسب وتعطيل معدل تدفقه الطبيعي، مما يعوق قدرته على طرد الملوثات إلى البحر الأبيض المتوسط بشكل تلقائي لتتراكم في نهاية المطاف في القاع بشكل دائم.

وتكمن خطورة هذا التلوث في كونه غير انعكاسي؛ أي أنه لا سبيل للتخلص منه، غير أن تدابير الحفظ المستندة إلى العلم التي اقترحتها الدراسة يمكن أن تبطئ التدهور أملا في استعادة النظام البيئي المتوازن لدلتا نهر النيل.

عملية بناء السدود الكبيرة (Mega Dams) من هذا النوع قد منعت منذ وقت طويل في دول أميركا وأوروبا لآثارها البيئية المعروفة، غير أن الافتقار إلى القوانين والتشريعات التي تقنن بناء السدود أو تمنعها جعل من بنائها في أفريقيا والاستثمار فيها حلا سهلا يتم اللجوء إليه دون الالتفات لعواقبه البيئية أو أثره على جودة المياه والتربة.

وهنا يأتي دور العلم في إثبات أو نفي الأضرار المحتملة بطريقة منهجية ومؤسَّسة، خاصة لسهولة الوصول إلى البيانات وتجميع العينات بالنسبة للباحثين المصريين ومن ثم تقييم الضرر علينا بأنفسنا.

وقد كان هذا أيضا -توفير مخرجات بحثية تتناول آثار بناء السدود- أحد الدوافع وراء هذا الجهد البحثي وغيره من الأبحاث الجاري العمل عليها حتى الآن مع مجموعة من الباحثين المصريين الدؤوبين.

The Nile is the longest river in the world and its delta is remarkable from outer space. Credit: NASA
تم أخذ عينات مُمَثِّلة للمناطق محل الدراسة من القطاعات المختلفة لفروع نهر النيل بالدلتا (ناسا)
  • على ذكر سهولة الوصول إلى البيانات وتجميع العينات، هل عدد العينات المأخوذ في الدراسة معبر لاستنتاج وجود تهديد محقق لـ60 مليون مصري؟

جُمعت العينات وفق منهجية علمية مدروسة للتأكد من كونها عينات مُمَثِّلة للمناطق محل الدراسة من القطاعات المختلفة لفروع نهر النيل بالدلتا، وذلك بغرض تكوين فكرة عامة ونطاقية عن مستوى التلوث في الدلتا. وقد تم تعويض قلة عدد العينات بتكاملها مع الدراسات السابقة والتحليلات الإحصائية وبيانات الاستخدامات المائية المختلفة بالدلتا.

ولكن بلا شك فإن استخدام عدد أكبر من العينات (بحيث لا يقل عن 100 عينة) يجب أن يتم بشكل دوري للحصول على صورة أكثر دقة لمستويات التلوث؛ حيث يتوقع أن تتباين مستويات التلوث باختلاف الفترات، لذا كلما زاد عدد العينات زادت جودة المخرجات البحثية.

  • وفقا للبحث المنشور، تم قياس التركيز الكلي للعناصر الثقيلة باستخدام الـXRF، هل تم أخذ الصور الأخرى لهذه العناصر -كالصور الذائبة والبيولوجية- في الاعتبار لما لها من آثار مباشرة على النظام البيئي والمستفيدين من البشر؟

ركزت الدراسة على مستويات التلوث من العناصر الثقيلة والتي لا يمكن التخلص منها بسهولة في ظل الوضع الجيومورفولوجي والهيدرولوجي (وضعية التربة والمياه) لدلتا نهر النيل، وبسبب طبيعة المعالجة لمياه الصرف الزراعي والصحي التي لا يمكنها تنقية المياه من العناصر الثقيلة بخلاف الملوثات الأخرى.

  • هل تم الرجوع لأي من مؤشرات الجودة البيئية المعتمدة أو أي دراسات سابقة تناولت بالتحليل مستويات التلوث لمقارنتها بتلك التي قيست خلال بحثكم؟

قورنت العديد من الدراسات السابقة سواء كانت دراسات على نطاق صغير أو إقليمي، وخلصت هذه المقارنات إلى أن مستوى التلوث في الدلتا يزيد بشكل مطرد مع الوقت نتيجة زيادة الاعتماد على مياه الصرف الزراعي والصحي غير المعالجة ثلاثيا في الري.

Aerial view of Nile River, Lake Nasser, Aswan Dam, Egypt. The difference between two region that reach water and those that do not. Drought concept background. Elements of this image furnished by NASA; Shutterstock ID 2208422041; purchase_order: ajnet; job: ; client: ; other:
نظرا لارتفاع تكلفة معالجة مياه الصرف قبل استخدامها، يجب التنسيق مع جميع دول حوض النيل (شترستوك)
  • في ضوء الدراسة، ما الآثار قصيرة وبعيدة المدى المترتبة على مثل هذا التلوث المتفاقم؟

من الآثار المباشرة قصيرة المدى لتلوث تربة قاع نهر النيل، هي قلة إنتاجية المحاصيل الزراعية وخاصة الأرز، نتيجة لزيادة بعض العناصر الثقيلة مثل الكادميوم في المياه والتربة؛ أما على المدى الطويل، فإن استمرار تراكم العناصر الثقيلة في تربة نهر النيل قد يؤدي إلى الوصول إلى مستويات سامة لهذه العناصر خاصة الكادميوم والرصاص مما قد يؤدي إلى تدهور البيئة المائية وصحة النبات والسكان في منطقة الدلتا.

  • ما السيناريوهات المقترحة من وجهة نظركم لتلافي أو تخفيف الزيادة المتوقعة للتلوث نتيجة مياه الصرف غير المعالج وآثار السدود؟

نظرا لارتفاع تكلفة معالجة مياه الصرف قبل استخدامها، يجب التنسيق مع جميع دول حوض النيل وذلك للوصول إلى إدارة تعاونية مشتركة للسدود وتدفقات نهر النيل، بحيث يمكن تقليل الاعتماد على مياه الصرف غير المعالجة في دلتا النيل بشكل لا يؤثر على حصص المياه أو إنتاج الكهرباء في دول أعالي النيل.. كما ينبغي على الجهات المختصة التوسع في تنظيم قواعد لإحلال المحاصيل الشرهة للمياه واختيار محاصيل أقل استهلاكا للمياه في دلتا النيل.

ومن المهم أن تكثف الدولة جهودها أيضا في سبيل توعية واسعة النطاق بضرورة الحفاظ على مياه النيل والقنوات المائية من خلال حملات حكومية توعوية.

وفي الختام أؤكد أن الهدف من الدراسة ليس إثارة الذعر بينما كان من الأساس دق ناقوس الخطر لضرورة معالجة مياه الصرف قبل إعادة استخدامها، إضافة إلى الانتباه إلى مخاطر السدود التي يتم بناؤها على مجرى نهر النيل.

وأوصي بسرعة التحرك لدراسة هذه المشكلة عن كثب والعمل لإيجاد حلول فعالة للتخفيف من المخاطر المتزايدة للتلوث الناجم عن بناء السدود أعلى مجرى نهر النيل.

المصدر : الجزيرة + فيز دوت أورغ + مواقع إلكترونية