بالتزامن مع اليوم العالمي لإلغائها.. "تذكرة حرية" وثيقة تحكي تاريخ تجارة الرقيق بمصر

لوحة للمستشرق الاسكتلندي ديفيد روبرتس تظهر مجموعة من الرقيق في "سوق العبيد" بالقاهرة بين عامي 1846-1849 المصدر: مكتبة نيويورك العامة
لوحة للمستشرق الأسكتلندي ديفيد روبرتس تظهر مجموعة من الرقيق في "سوق العبيد" بالقاهرة بين عامي 1846-1849 (مكتبة نيويورك العامة)

القاهرة- قبل 184 عامًا وفي مثل هذا اليوم الرابع من ديسمبر/كانون الأول، أصدر حاكم مصر محمد علي باشا قرارا بمنع تجارة الرقيق رسميا، وهو القرار الذي أصدرته الأمم المتحدة في الثاني من الشهر ذاته لكن منذ 73 سنة، عام 1949، واعتبرته اليوم العالمي لإلغاء الرق.

الرحلة في تاريخ إبطال تجارة الرقيق في مصر طويلة، وتشهد عليها وثائق وحكايات يمكن اعتبارها حاليا من الأساطير، لكنها تكشف معاناة طويلة في سبيل الحرية.

"إنها ليست مجرد قصاصة ورق، إنها صك حرية إنسان، ومفتاح لفك قيود عبوديته"، بهذه الكلمات يصف هاوي الوثائق القديمة أحمد عبد الله نسخة من وثيقة تاريخية مصرية تحمل عنوان "تذكرة حرية".

الوثيقة التي بدأت الدولة المصرية منحها للرقيق المعتوق منذ عام 1877، كانت تمنح صاحبها حريته كسائر الأحرار، وتؤكد أن للمعتوق ولاية نفسه كيفما يشاء، بلا قيد أو شرط.

آثار الزمن تبدو واضحة على الوثيقة، التي عرضها الهاوي المصري الشاب على مراسل الجزيرة نت، حيث يظهر تآكل بسيط بأحد أطرافها وتتناثر ثقوب صغيرة في أرجائها لا تؤثر على تماسكها، وكأنها تقاوم السنين لتبقى شاهدة على جزء من تاريخ مصر، وحياة أفراد عاشوا حياة الرق، وانتظروا طويلا حتى حصلوا على حريتهم.

"سعادة" حرة

لم توقف قرارات محمد علي تجارة الرقيق وقتها، ولكنها كانت بداية لمحاولات عدة (شكلية وجادة) استمرت لعقود لإنهاء هذه التجارة غير الإنسانية، ومهدت لحصول "سعادة" على حريتها.

"سعادة" هو اسم صاحبة الوثيقة، وربما صفتها أيضا يوم اعتقت وحصلت على حريتها، لتمتلك ناصية أمرها لأول مرة في سنوات عمرها البالغة 25 عاما.

لا تخبرنا الوثيقة -الصادرة عن قلم عتق الرقيق بالإسكندرية- بكثير عن حياة "سعادة"، ولكنها تصف لنا هيئتها فهي "مربوعة القامة، متوسطة الجسم، سوداء اللون والعين، مفتوحة الحاجبين، مبطونة الأنف، غليظة الشفتين، على خديها علامات تشريط غليظة"، والأهم أنها أصبحت حرة.

"سعادة" التي كانت مملوكة لرجل يدعى سليمان هي سودانية الأصل، كعشرات الآلاف من بني جلدتها الذين كان يجلبهم تجار الرقيق من السودان، الذي كان يمثل أكبر مستودعات الرقيق في أفريقيا، وكانت حملات صيد الرقيق على أشدها هناك، خاصة في القرن الـ19.

"تذكرة الحرية" شاهدة على حياة أفراد عاشوا حياة الرق، وانتظروا طويلا حتى حصلوا على حريتهم
"تذكرة الحرية" شاهدة على حياة أفراد عاشوا حياة الرق، وانتظروا طويلا حتى حصلوا على حريتهم (الجزيرة)

الرقيق في مصر

تشير الدراسات التاريخية إلى أن مصر في ذلك الوقت كان بها نوعان من الرقيق، هما الرقيق الأبيض الذي كان يجلب من بلاد الجراكسة والقوقاز، إلى جانب أعداد كبيرة جلبها إبراهيم باشا بعد حملته على المورة في اليونان عام 1823.

أما النوع الثاني، فهو الرقيق الأسود، وكان يجلب إلى مصر من 3 مناطق رئيسية، أولها المنطقة الواقعة إلى جنوب وغرب دارفور، والثانية منطقة "سنار" القريبة من حدود الحبشة، والثالثة منطقة كردفان.

وكانت تجارة الرقيق تجارة منظمة لها دلالون يُسمح لهم بأخذ سمسرة، وكان الرقيق يباعون في أسواق معروفة مثل وكالة النحاسين بالقاهرة، بينما كانت أسيوط (جنوبا) من أكبر أسواق تجارة الرقيق في مصر، وكانت تأتي إليها قوافل الرقيق من دارفور وسنار لتغذية أسواق مصر وسوريا وتركيا.

الباشا والرقيق

يذكر العديد من المؤرخين أن أحد الأسباب الأساسية التي دفعت حاكم مصر محمد علي باشا إلى غزو السودان كانت استجلاب الرقيق لتجنيدهم في الجيش (وهي التجربة التي فشلت لاحقا)، بالإضافة إلى استخدامهم في أعمال الزراعة والصناعة وغيرها من المشروعات.

مع تصاعد الحملات العالمية لإنهاء تجارة الرقيق التي كانت تقودها بريطانيا لأسباب سياسية، وفق العديد من الباحثين، قرر محمد علي انتهاج الخط نفسه، وأرسل إلى حكمدار السودان خورشيد باشا رسالة بتاريخ الأول من ديسمبر/كانون الأول 1837 يأمره فيها بإبطال تجارة الرقيق، وقال في رسالته "يجب عليك أن تعلم أني لا أريد ربحا من تجارة لا تشرفني".

وفي الرابع من ديسمبر/كانون الأول عام 1838، أعلن محمد علي -في أثناء زيارته للسودان- إلغاء تجارة الرقيق رسميا، وشدد أوامره على منع صيد الرقيق وحظر دفع مرتبات الجنود من العبيد كما كان يحدث في ذلك الوقت، وأرسلت صورة من هذه الأوامر إلى قادة الجيش.

وفي يناير/كانون الثاني 1839، أطلق محمد علي سراح 500 من الأرقاء وأرسلهم إلى بلادهم.

لكن قرارات محمد علي لم تنجح في إنهاء تجارة الرقيق، خاصة أنه كان يرى أن الرق نظام له جذور ضاربة وعميقة في المجتمعات، ومن المستحيل القضاء عليه مرة واحدة وإنما لا بد من التدرج.

واستمرت تجارة الرقيق مزدهرة خلال السنوات التالية، خاصة في عهد عباس حلمي الأول (1848- 1854)، رغم استمرار المنع الرسمي لتجارة الرقيق، ومحاولته حث التجار على ترك هذه التجارة والاتجاه إلى السلع المشروعة.

مجموعة من الرقيق السوداني يعرضن للبيع في القاهرة خلال القرن التاسع عشر المصدر: مكتبة نيويورك العامة
مجموعة نساء من الرقيق من السودان يعرضن للبيع في القاهرة خلال القرن الـ19 (مكتبة نيويورك العامة)

محاولات فاشلة

"قرارات ثورية تمهد للقضاء على تجارة الرقيق"، هكذا وصف البعض القرارات التي اتخذها محمد سعيد باشا (1854- 1863) في بداية عهده، حين أصدر أوامر بإبطال بيع وشراء العبيد بعد آخر شهر ذو الحجة 1272 هجريا الموافق الثاني من سبتمبر/أيلول 1856، وإلقاء القبض على المخالفين ومنع إعطاء تراخيص للجلابة (الذين يجلبون الرقيق)، ومنع استخدام الرقيق عملة لدفع رواتب الجنود، ومنح الحرية الكاملة للرقيق في مصر، مع توفير العمل لمن يترك خدمة أسياده.

لكن هذه القرارات الثورية لم تفلح، واستمرت تجارة الرقيق وازدادت عملياتها، بل وبشكل رسمي أحيانا.

ويرى البعض أن سعيد باشا نفسه هو سبب فشل الإصلاحات، لأنه كوّن حرسا خاصا من الزنوج عام 1859، وأرسل لحكامه في السودان يطلب الرقيق، وبالتالي عادت طلبات استيراد الرقيق مرة ثانية بشكل رسمي، وفقا لدراسة "سياسة حكام مصر تجاه تجارة الرقيق" للباحث عمر سالم.

الرقيق الأطلسي.. ذكرى جريمة سوداء في جبين البشرية american slavery غتي
الرقيق الأطلسي ذكرى جريمة سوداء في جبين البشرية (غيتي)

خطوات جادة

وشهدت فترة حكم الخديوي إسماعيل (1863- 1879) خطوات حاسمة لمحاربة تجار الرقيق والقضاء عليهم، وصلت إلى إرسال حملات عسكرية إلى مناطق تجارة الرقيق حتى أواسط أفريقيا، ولكنها جاءت بنتائج عكسية -وفق المؤرخين- نتيجة عنف الإنجليز القائمين على هذه الحملات.

ووقعت مصر وبريطانيا في الرابع من أغسطس/آب 1877 معاهدة لمنع تجارة الرقيق في أفريقيا تنص على منع دخول الرقيق من السودانيين أو الحبشيين إلى أراضي القطر المصري وملحقاته سواء عن طريق البر أو البحر، واعتبار بائعي الرقيق بمنزلة السارقين القتلة، وألزمت المعاهدة مصر بإصدار قرار رسمي يمنع بيع الرقيق على أراضيها.

أما بالنسبة للرقيق، فقضت المعاهدة بعدم إعادتهم إلى بلادهم مجددا بدعوى احتمالات هلاكهم أو وقوعهم في الرق مرة أخرى، ولكن يتم استخدام المعتوقين من الذكور -وفقا لاختيارهم- في الزراعة أو الخدمة المنزلية أو العسكرية، والإناث في أماكن تابعة للحكومة أو في "منازل آمنة"، في حين يتم إلحاق الأطفال بمدارس أو معامل تابعة للحكومة، وتدخل الإناث مدارس مخصصة لهن، وفقا لدراسة نجاة يحيى "أضواء جديدة على جهود مصر في إلغاء تجارة الرقيق من 1963 حتى 1879".

"تذكرة الحرية" كانت بمثابة إثبات هوية للرقيق المعتق وتمنح صاحبها حريته كسائر الأحرار.
"تذكرة الحرية" كانت عبارة عن إثبات هوية للرقيق المعتق وتمنح صاحبها حريته كسائر الأحرار (الجزيرة)

تذاكر الحرية

ومع دخول المعاهدة حيز التنفيذ وصدور لائحة 15 أكتوبر/تشرين الأول 1877، ظهرت "تذاكر الحرية"، وهي تذكرة تمنح للمعتوق لاعتماد حريته، ويثبت بكل تذكرة اسم المعتوق وجنسه وبلده وسنه واسم من كان بطرفه، وأوصاف المعتوق.

وكان كل فرد تحت الرق بإمكانه أن يذهب من تلقاء نفسه إلى قلم عتق الرقيق للحصول على تذكرة حرية، أو يتم منحها للرقيق الذين يتم ضبطهم في أثناء محاولات بيعهم، وكانت تصدر إما بتوقيع محافظ العموم أو النائب عنه، ويتم الاحتفاظ بنسخة منها في دفتر لتذاكر الحرية يسمى (دفتر قسيمة) ليكون أصلًا يرجع إليه عند اللزوم.

وكان القانون يمنع أخذ تذكرة الحرية من صاحبها أو منعه من ممارسة حريته، وكل من يفعل ذلك سواء بالتحايل أو الإجبار كان يعامل معاملة تاجر الرقيق.

وتظهر سجلات عتق الرقيق بدار المحفوظات العمومية أن المعتوق كان حريصا على الحصول على تذكرة الحرية، ليتمكن من السعي وكسب قوت يومه، كما تتيح له حرية التنقل والسفر وتجنب القبض عليه، لأن هذه التذاكر كانت بمثابة إثبات هوية للرقيق المعتق، وفق دراسة أرشيفية وثائقية لتفيدة سمير.

وتقدر الكاتبة جودث تاكر مؤلفة كتاب "نساء مصر في القرن التاسع عشر" عدد من تم عتقهم في مصر بين عامي 1877 و1905 بنحو 25 ألف شخص.

عبيد في القرن 21

وتتمثل المفارقة -وفقا لما تتناقله وسائل إعلام مصرية- في وجود عبيد حاليا بمصر، خاصة في محافظات الصعيد أقصى جنوب البلاد.

وفي عام 2017، نقلت صحف مصرية عن المؤشر العالمي للعبودية أن عدد العبيد في مصر يتراوح بين 66 ألفًا و73 ألفًا، خاصة في أسيوط وسوهاج وقنا وفى أجزاء من أسوان وتقل تماما في المنيا، في حين لا تعرف محافظات الوجه البحري ظاهرة العبيد باستثناء بعض مدن الشرقية، بالمناطق التي تقطنها قبائل وعائلات تنحدر من أصول عربية.

المصدر : الإعلام المصري + الجزيرة