إستراتيجية أميركا لمنع الصراع ودعم الاستقرار (4) | سرّ الاختيار

إحدى المناطق في موزمبيق (الفرنسية-أرشيف)

في لقائه مع قناة "بي بي إس" PBS الأميركية بتاريخ 9/12/1994، عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي، قال الرئيس جو بايدن تعقيباً على حالة الفوضى السائدة في هاييتي بعد الإطاحة في انقلاب عسكري بـ "جان برتراند أريستيد" أول رئيس منتخب ديمقراطياً "إن الولايات المتحدة تعاني من أزمات أكثر إلحاحاً، وهاييتي ليست ذات أهمية خاصة للمصالح الأميركية". وأضاف "لو غرقت هاييتي في مياه البحر الكاريبي أو ارتفعت 300 قدم فلن يكون ذلك مهماً للمصلحة الأميركية".

فما الذي جعل هاييتي تقفز فجأة لتصبح في قلب اهتمامات الإدارة الأميركية، وتضعها على رأس قائمة الدول التي ستعمل على منع الصراع وتعزيز الاستقرار فيها، تنفيذاً للإستراتيجية الأميركية لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار في 10 سنوات؟

والسؤال الآخر عن تلك الدول المعنية -والتي تضم هاييتي وليبيا وموزمبيق وبابوا غينيا الجديدة وبنين وساحل العاج وغانا وغينيا وتوغو- لماذا هذه الدول بالذات؟ وهل هي الأكثر هشاشة وحاجة إلى منع الصراع وتحقيق الاستقرار؟ وما الخطة التي وضعتها الإدارة الأميركية لكل منها؟ وماذا عن بقية دول العالم التي تعاني من الهشاشة في شتى المجالات بسبب الصراعات وغياب الاستقرار؟

 

مصالح أميركا وحلفائها هي العامل الحاسم في اختيار الدول التسع لخطة معالجة الهشاشة الدولية ومنع الصراع وتحقيق الاستقرار، بعيداً عن الشعارات البرّاقة والعبارات المنمقة حول التنمية المستدامة وتحقيق الاستقرار والحقوق والمساواة والصحة والتعليم والرفاه.

المصالح الأميركية أولاً

لقد حددت الإستراتيجية الأميركية لمنع الصراع وتحقيق الاستقرار بشكل واضح الأساس الذي يتم بناء عليه اختيار الدول التي ستنفّذ فيها هذه الإستراتيجية، وهو التركيز على الدول والمناطق الأكثر ضعفاً وهشاشة، ولكن الإستراتيجية كانت واضحة كذلك في تحديد أن يكون الاختيار متوافقاً مع إستراتيجية الأمن القومي، وأن تكون الدول المختارة من التي تشكّل فيها الهشاشة تهديداً لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها.

وبالنظر إلى مجموعة الدول المختارة، وحسب تقرير التنمية البشرية لعام 2021-2022 الصادر عن الأمم المتحدة، فإننا الدول العشر الأقل تنمية على مستوى العالم هي غينيا، جنوب السودان، تشاد، النيجر، أفريقيا الوسطى، بوروندي، مالي، موزمبيق، بوركينا فاسو، اليمن) -وحسب تقرير الهشاشة الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية "أو إي سي دي" (OECD) لعام 2022- فإن الدول العشر الأكثر هشاشة في العالم هي الصومال، جنوب السودان، أفغانستان، اليمن، أفريقيا الوسطى، الكونغو الديمقراطية، تشاد، سوريا، الكونغو، هاييتي.

والنظر في التقارير السابقة يكشف إذن أن اثنتين فقط من الدول التي اختارتها الإدارة الأميركية وردتا ضمن قائمة الدول الأقل تنمية في العالم، وهما غينيا وموزمبيق، وأن دولة واحدة من القائمة الأميركية وردت ضمن الدول الأكثر هشاشة في العالم وهي هاييتي، وهذا يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن المصالح القومية للولايات المتحدة وحلفائها هي العامل الرئيسي والحاسم في اختيار الدول التسع لخطة الإدارة الأميركية، بعيداً عن الشعارات البرّاقة والعبارات المنمقة حول التنمية وتحقيق الاستقرار والحقوق والمساواة والصحة والتعليم والرفاه.

ولم تشر الإستراتيجية الأميركية إلى الأسباب الحقيقية وراء اختيار تلك الدول، التي تشترك في ظروفها مع دول أخرى هي أكثر استحقاقاً منها بهذا الاهتمام، باستثناء موزمبيق التي تحتل الترتيب 184 في أدنى القائمة العالمية في التنمية البشرية التي تضم 191 دولة آخرها دولة جنوب السودان.

ومع ذلك فإن النظرة الأولى لتوزيع هذه الدول على خارطة العالم (انظر الخارطة) يكشف احتلالها مواقع في غاية الأهمية من الناحية الجيوإستراتيجية شرق الكرة الأرضية وغربها ووسطها وجنوبها، وهو ما سنعرضه بشيء من التوضيح عندما نتناول هذه الدول كل على حدة.

أسئلة كثيرة تدفعنا إلى البحث عن الأسباب الحقيقية التي جعلت أميركا تختار هذه الدول دون غيرها، لنقترب من فهم طريقة عمل الولايات المتحدة في العالم، بعيداً عن الشعارات المراوغة والمساعدات المشبوهة

أسباب الاختيار

الدولة الأولى التي وقع عليها اختيار خطة الإدارة الأميركية لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار هي هاييتي، إحدى جزر البحر الكاريبي التي لا يكاد الناس يعرفون عنها سوى الصراعات السياسية والكوارث الطبيعية، ورغم أن هاييتي تحتل الترتيب 164 في تقرير التنمية البشرية، والترتيب العاشر في قائمة الدول الهشّة، إلا أن هذا لم يكن سبباً كافياً لاختيارها لتكون الأولى في خطة الإدارة الأميركية، فما الأسباب التي بني عليها هذا الاختيار؟ ما الذي تمثله هاييتي لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها؟

عربياً، كان من المستغرب جداً أن يقع الاختيار على ليبيا لتكون الدولة الثانية على قائمة الإدارة الأميركية في السنوات العشر القادمة، من أجل منع النزاع وتحقيق الاستقرار وإقامة حكومة ديمقراطية منتخبة منسجمة مع النظام العالمي القائم على القواعد.

وتحتل ليبيا الترتيب 104 بين دول العالم في تقرير التنمية البشرية لعام 2021-2022، ومدرجة ضمن الدول ذات التنمية المرتفعة، ورغم أنها تحتل الترتيب 16 في قائمة الدول الهشّة، إلا أنه يسبقها في هذا التصنيف دول عربية أخرى كالصومال واليمن وسوريا والسودان والعراق. ومع ذلك وقع اختيار الإدارة الأميركية على ليبيا، وليس الصومال أو اليمن أو سوريا، على سبيل المثال، وهذا يدفعنا إلى البحث عن الأسباب التي دفعت الإدارة الأميركية لهذا الاختيار.

أما دولة "بابوا غينيا الجديدة" في أقصى شرق الكرة الأرضية، فتحتل الترتيب 157 في تقرير التنمية البشرية، متقدمة على 34 دولة أكثر احتياجاً منها للدعم والتنمية، كما تحتل الترتيب 27 في قائمة الدول الهشّة، تاركة أمامها 26 دولة أكثر هشاشة واضطراباً، وهذا بدوره يعني أن مرجع الاختيار ليس مستوى التنمية ولا مستوى الهشاشة، وإنما أسباب أخرى.

وأما موزمبيق، فهي وإن كانت تحتل الترتيب 184 في تقرير التنمية البشرية، إلا أنها في الترتيب 24 في قائمة الدول الهشّة، ويسبقها 23 دولة أشد منها هشاشة واضطراباً، ما يعني أن هناك أسبابا أخرى كذلك لاختيارها.

وأما دول ساحل غرب أفريقيا (بنين وساحل العاج وغانا وغينيا وتوغو) فحكايتها أم الحكايات، حيث تحتل هذه الدول -متجاورة- الجزء الجنوبي من الساحل الغربي لقارة أفريقيا، وتشاركهما ذات الصفة دولتا ليبيريا وسيراليون، اللتان لم تدرجهما الإدارة الأميركية في خطتها رغم أن مؤشر التنمية متدن ومؤشر الهشاشة مرتفع في كل منهما. فليبيريا في الترتيب 178 وسيراليون في الترتيب 181 في تقرير التنمية البشرية، كما أن ليبيريا في الترتيب 21 وسيراليون في الترتيب 41 في قائمة الدول الهشّة.

فلماذا استثنت الإدارة الأميركية هاتين الدولتين، رغم استحقاقهما على مستوى التنمية والهشاشة، ورغم موقعهما الجغرافي المتوسط على الساحل بين الدول الأخرى الخمس التي اختارها التقرير؟

والإجابة عن السؤال السابق جزء من الإجابة عن السؤال الخاص باختيار الدول الخمس الأخرى، والتي سنجيب عليها عند تناولنا لها في المقالات القادمة إن شاء الله، مع عرض خطط الإدارة الأميركية لكل منها.

والبحث عن جواب هذه الأسئلة يضع أيدينا على الأسباب الحقيقية التي جعلت الإدارة الأميركية تختار هذه الدول دون غيرها، وتمكننا من فهم طريقة قيادة الولايات المتحدة للعالم، بعيداً عن الشعارات المراوغة والمساعدات المشبوهة، التي تنتهي دائما نهايات مأساوية.

وقد اختارت الإستراتيجية الأميركية 9 دول لتكون محط اهتمامها السنوات العشر القادمة من أجل منع الصراع وتحقيق الاستقرار فيها، على حدّ زعمها، فماذا عن بقية الدول التي تعاني من الهشاشة وسوء التنمية؟ هل ستنتظر دورها في الإستراتيجيات العشرية التالية؟ هذا ما لم أجد له توضيحاً، لا في خطة الولايات المتحدة الإستراتيجية لمنع النزاع وتعزيز الاستقرار، ولا في خطة الإدارة الأميركية الحالية.

 

(يتبع… هاييتي،.. لعنة الثورة)

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.