إستراتيجية أميركا لمنع الصراع ودعم الاستقرار (6) | هاييتي وصراع المصالح الكبرى

رئيس هاييتي جوفينيل مويز يتحدث خلال مؤتمر صحفي مشترك مع الأمين العام لمنظمة الدول الأميركية (OAS) في بورت (وكالات)

لم يكن الموقع الإستراتيجي لدولة هاييتي في بوابة خليج المكسيك، على مقربة من الحدود الجنوبية الشرقية للولايات المتحدة بحوالي ألف كلم مربع، وإطلالتها على ممرات مائية إستراتيجية تشبه كثيرا إطلالة تايوان على الممرات المائية في بحر الصين جنوب شرق الكرة الأرضية، ولم تكن العلاقة التاريخية التي تربط الولايات المتحدة بهاييتي منذ تأسيسها عام 1804 كثاني جمهورية في غرب الكرة الأرضية، بعد الولايات المتحدة التي بسطت هيمنتها على مختلف شؤون دولة هاييتي السياسية والاقتصادية والأمنية، ولم يكن الجانب الإنساني وارتفاع معدل هشاشة الدولة وكثرة الكوارث الطبيعية وقوافل اللاجئين الهاييتيين إلى الولايات المتحدة؛ لم تكن هذه الأسباب هي ما جعل الإدارة الأميركية تضع هاييتي على رأس قائمة الدول الهشّة في خطتها الإستراتيجية القادمة لإيقاف الصراع وتعزيز الاستقرار، ولكن الأسباب الحقيقية تكمن في صراع المصالح الإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة مع منافسيها، وهي هذه المرة ليست مع الاتحاد السوفياتي، وإنما في مواجهة الصين التي اعترفت الولايات المتحدة بأنها أصبحت المنافس الأكبر لها في المرحلة الحالية.

حذّر الكونغرس من الآثار المترتبة على زعزعة الاستقرار داخل هاييتي ودول البحر الكاريبي، ومن أنه قد يدفع هاييتي لفتح أبوابها للتدخل السياسي من قبل الصين. وكتب المشرّعون أن الحزب الشيوعي الصيني سيسعى إلى الاستفادة من الاضطرابات السياسية في هاييتي لزيادة تهميش المصالح الأميركية والتايوانية

دعم دولي وأميركي متواصل

تعمل الأمم المتحدة في هاييتي منذ عشرات السنين، عن طريق 19 وكالة وصندوقا تابعا لها، بالإضافة إلى منظمة الصحة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة الدولية للهجرة (IOM). وفي الفترة من 2001 إلى الآن، قدّمت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي حوالي 6 مليارات دولار كدعم إغاثي لهاييتي ضمن برامج الأمم المتحدة السنوية، لا يشمل الدعم المقدّم لمواجهة الكوارث الطبيعية من زلازل وأعاصير، والذي تجاوز 9 مليارات دولار لمواجهة زلزال 2010. الولايات المتحدة قدمت في السنوات العشر الماضية مساعدات لهاييتي بلغت حوالي 5 مليارات دولار، وهذا يُظهر أن الدعم الدولي لم يتوقف، ولكنه لم ينقذ الشعب الهاييتي من دوامة الهلاك التي يغرق فيها، بسبب عجز المجتمع الدولي عن إيجاد حلول قادرة على إيقاف النزاع ومحاربة الفساد والجريمة وتحقيق الاستقرار. فهل كان هذا الفشل السبب في قيام الإدارة الأميركية بوضع هاييتي على رأس قائمة الدول التي ستعمل على معالجة هشاشتها في السنوات العشر القادمة؟

في أعقاب الزلزال الذي ضرب هاييتي عام 2010، وراح ضحيته حوالي 300 ألف شخص، وتسبب في تشريد حوالي 1.5 مليون إنسان؛ قدّمت الولايات المتحدة منذ ذلك الوقت وحتى اليوم أكثر من 5 مليارات دولار من المساعدات، تحت عنوان "برامج التعافي وإعادة الإعمار والتنمية على المدى الطويل"، وذلك قدّم للشعب الهاييتي ما يأتي، بحسب تقرير وزارة الخارجية:

  1. توفير ما يقرب من 14 ألف فرصة عمل.
  2. تمكين حوالي 70 ألف مزارع من تحسين غلّات محاصيلهم من خلال إدخال البذور المحسّنة والأسمدة والري والتقنيات الحديثة.
  3. المساهمة في تقوية الشرطة وتوسيعها إلى أكثر من 15 ألفا و300 فرد.
  4. تقديم برامج لتحسين تغذية الأطفال وتقليل نسبة وفياتهم، وتحسين الوصول إلى الرعاية الصحية للأمهات، والمساهمة في احتواء انتشار فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، الذي يزداد بشكل متسارع وصل إلى 8 أضعاف في السنوات الثماني الأخيرة بحسب الأمم المتحدة.
  5. إيصال خدمات الرعاية الصحية الأساسية إلى أكثر من 160 مركزًا صحيًا في جميع أنحاء هاييتي.

يذكر تقرير الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة تعتبر الشريك التجاري الأكبر لهاييتي، وتشارك في قطاعات استثمارية عديدة كالبنوك وشركات الطيران والنفط والشركات الزراعية، بالإضافة إلى مصانع تجميع المعدّات المملوكة للولايات المتحدة. وتعتبر السياحة والإمدادات والمعدات الطبية وتحديث البنية التحتية وإنتاج الملابس؛ من مجالات الفرص الاستثمارية للشركات الأميركية في هاييتي.

إذا كانت الولايات المتحدة تعتقد أنها حققت للشعب الهاييتي الكثير من الإنجازات على نحو ما سبق، فهذا يجعلنا نتساءل من جديد عمّا ستحققه في السنوات العشر القادمة في هاييتي، مما لم تستطع هي والمجتمع الدولي تحقيقه على مدى العقود السابقة؟

تعد جهود الصين في منطقة الكاريبي جزءا من إستراتيجيتها العالمية لإقامة علاقات اقتصادية عميقة وعلاقات دبلوماسية قوية حول العالم، عن طريق بناء مشاريع بنية تحتية كبرى

المنافس الصيني

وجدت الولايات المتحدة نفسها في مواجهة مباشرة مع الصين في دول البحر الكاريبي، بعد التحركات العديدة التي قامت بها هناك، والتي تضاف إلى تحركاتها في أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا، وتعزز من قدرات الصين السياسية والاقتصادية في مواجهة الولايات المتحدة.

وكما تدخلت الولايات المتحدة في هاييتي في فترة الحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفياتي الذي تسلل إلى تلك المياه الدافئة عن طريق كوبا الماركسية، فإنها تعمل على إعادة تموضعها من جديد في هاييتي في مواجهة التسلل الصيني إلى المنطقة. ففي ربيع عام 2020، وفي خضم جائحة كورونا، أرسلت الصين شحنات من المعدات الطبية لمكافحة فيروس كورونا إلى هاييتي، فيما اعتبرته الولايات المتحدة محاولة من الصين لتعزيز علاقاتها في المنطقة عن طريق التبرعات، ضمن ما يُعرف بـ"دبلوماسية القناع".

كانت الصين قبل ذلك قد قدمت لدولة جامايكا -وهي ضمن جزر الأنتيل الكبرى في خليج المكسيك جنوبي كوبا- قروضًا وخبرات لبناء أميال من الطرق السريعة الجديدة، كما تبرعت في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي بمعدات أمنية لقوات الجيش والشرطة، وأنشأت شبكة من المراكز الثقافية الصينية، وأرسلت شحنات كبيرة من مجموعات الاختبار والأقنعة وأجهزة التنفس الصناعي لمساعدة الحكومات على الاستجابة لجائحة كورونا.

وقد نظرت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب بقلق شديد إلى هذا الوجود الصيني المتزايد في المنطقة، واعتبرته تحدّياً مباشراً لنفوذ واشنطن فيها، حيث يرى المحللون في الولايات المتحدة أن المنطقة لها أهمية إستراتيجية كبيرة كمركز للخدمات اللوجستية والبنوك والتجارة، ويمكن أن تكون لها قيمة أمنية كبيرة بسبب قربها من الولايات المتحدة.

تعد جهود الصين في المنطقة جزءًا من إستراتيجيتها العالمية لإقامة علاقات اقتصادية عميقة وعلاقات دبلوماسية قوية حول العالم، عن طريق بناء مشاريع بنية تحتية كبرى في إطار مبادرة الحزام والطريق الطموحة. وقد بلغت القروض المنخفضة الفائدة التي قدمتها الحكومة الصينية لدول منطقة الكاريبي وفنزويلا على مدى الـ17 عامًا الماضية، حوالي 62 مليار دولار، تم منح الكثير منها مقابل إمدادات النفط الطويلة الأجل.

في الفترة نفسها، استثمرت الشركات الصينية في الموانئ والخدمات اللوجستية البحرية والتعدين والنفط وصناعات السكر والأخشاب والمنتجعات السياحية والمشاريع التكنولوجية، مما ساهم في زيادة التجارة بين الصين ومنطقة البحر الكاريبي بمعدل 8 أضعاف بين عامي 2002 و2019.

وقد صعّدت الولايات المتحدة تحذيراتها للحلفاء في المنطقة بشأن مخاطر التعامل مع بكين، مؤكدة أنها مخاطر محتملة ما بين البناء الرديء والقروض الجائرة والتجسس.

وبعد اغتيال الرئيس الهاييتي جوفينيل مويز قبل عامين، أرسل المشرعون الجمهوريون توم تيفاني و"سكوت بيري" من كتلة تايوان في مجلس النواب الأميركي، خطابًا إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن، يحذّر من الآثار المضاعفة المحتملة لهذا الاغتيال على الاستقرار داخل هاييتي وعبر المنطقة الأوسع، ومن أنه قد يدفع هاييتي لفتح أبوابها للتدخل السياسي من قبل الصين. وكتب المشرعون أن الحزب الشيوعي الصيني سيسعى إلى الاستفادة من الاضطرابات السياسية في هاييتي لزيادة تهميش المصالح الأميركية والتايوانية.

عندما تلقّت إدارة الرئيس جو بايدن تكليف الكونغرس -فور استلامه السلطة في البيت الأبيض- بإعداد خطة إستراتيجية تنفيذية لمعالجة الهشاشة لمدة 10 سنوات، لم يكن يعطي هاييتي أدنى اهتمام، وهو صاحب الرأي بأن هاييتي لو غرقت في البحر الكاريبي فإنها لن تؤثر على المصالح الأميركية. إلا أن التغيرات التي حصلت في إستراتيجية الدفاع الأميركية في عهد الرئيس بايدن على الجبهتين الروسية والصينية، وتصاعد المواجهة الأميركية على كلا الجبهتين، أعادت الحسابات من جديد تجاه هاييتي، وخاصة في ضوء التقارير الواردة لها عن النشاط الصيني المتنامي في دول البحر الكاريبي على وجه الخصوص، لتصبح على رأس قائمة الدول الهشة في إستراتيجية الإدارة الأميركية للسنوات العشر القادمة، فماذا وضعت إدارة الرئيس بايدن في خطتها الإستراتيجية تجاه هاييتي؟

(يتبع: هاييتي.. المعالجة الإستراتيجية)

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.