هل تركيا مستعدة لليوم الذي سيلي الانتخابات؟

العامل الأساسي في تحديد إذا ما كان أي من الطرفين سيقبل نتائج انتخابات ليست لمصلحته يعتمد على مدى إيمانه بالديمقراطية (رويترز)

دخل السباق الانتخابي في تركيا أيامه الأخيرة تاركًا وراءه كثيرا من الأسئلة من دون إجابات واضحة؛ بعض الأسئلة المرتبطة بعملية إعادة تشكيل السلطة ستتحدد أجوبتها على الفور بعد فرز صناديق الاقتراع، لكن سؤالًا مهمًا قد لا تتوفر إجابة فورية عنه مساء 14 مايو/أيار -أو 28 مايو/أيار في حال لم تُحسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى- وهو هل تركيا مستعدة لليوم الذي سيلي الانتخابات؟

وذلك لأن المنافسة بين التحالفين الرئيسين، الحاكم الذي يقوده الرئيس رجب طيب أردوغان والمعارض الذي يتزعمه كمال كليجدار أوغلو، تأخذ طابعًا حادًا غير معهود في التاريخ السياسي التركي الحديث، لدرجة أن كلًا منهما يخوض الانتخابات من منظور صراع وجودي؛ خسارة أردوغان لن تعني خروجه من السلطة فحسب، بل ستطوي إرث عقدين من حكمه، في حين أن هزيمة المعارضة لن تكون كأي خسارة سابقة، بل ستًفقدها فرصة ربما لا تتكرر لسنوات أو لعقود أخرى من أجل الوصول إلى السلطة.

مثل هذه المنافسة في الأحوال العادية تعد علامة على أن الديمقراطية تعمل بشكل جيد وتؤدي وظيفتها في عملية إعادة إنتاج السلطة من خلال الاحتكام إلى صناديق الاقتراع. لكن في حالة سياسية واجتماعية مستقطبة على نحو غير مسبوق كتلك التي تشهدها تركيا اليوم، حيث يتنافس التحالفان الرئيسيان من أجل الفوز فقط وليس من أجل المنافسة للفوز أو الخسارة، فإن التساؤل عما يمكن أن تكون عليه الحال بعد اتضاح نتائج الانتخابات، وخصوصًا الرئاسية، يقودنا إلى 3 أسئلة صعبة ومحيرة في آن واحد: هل سيقبل أردوغان نتائج انتخابات رئاسية يخسرها؟ وهل سيقبل كليجدار أوغلو نتائج انتخابات رئاسية لا يفوز فيها؟ وهل الديمقراطية التركية قادرة على التعامل مع أزمة محتملة حول نتائج الانتخابات وشرعيتها؟

مع أن تركيا في تاريخها السياسي الحديث لم يسبق لها أن تعاملت مع تجربة أزمة مُحتملة من هذا النوع، إلا أن خلو الخطاب السياسي لأردوغان وكليجدار أوغلو من فرضية الخسارة يجعل البلاد غير مهيأة للتعاطي بسلاسة مع نتائجها. في علم الاجتماع السياسي، إن تركيز خطاب المرشحين على فرضية النصر فقط يعد من الوسائل النفسية القوية والمؤثرة لتعزيز قواعدهما الانتخابية الصلبة وتحفيز الناخبين المترددين، الذين لم يحسموا خياراتهم بعد، وهم كتلة وازنة في الانتخابات الحالية، للتصويت للمرشح الذي يُظهر ثقة مُطلقة بالفوز. لأن كلًا من أردوغان وكليجدار أوغلو يُظهر هذه الثقة على نحو لا يقبل التشكيك، فإن هذا النوع من الثقة يُمكن أن يتجاوز هدفه. في الديمقراطيات الضعيفة، عادة ما تستمد المعارضة قوتها في مقاومة نتائج الانتخابات التي يفوز فيها من في السلطة من فرضية شائعة وواقعية في كثير من الأحيان وهي تزوير الانتخابات.

لا يُمكن إدراج الديمقراطية التركية بأي حال في إطار الديمقراطيات الهشة. لم تشهد الديمقراطية التركية حتى الانتخابات الحالية -على الأقل- أن اتهمت معارضة الحكومة صراحة بتزوير انتخابات على نحو يُشكك بشرعية الحكم الذي أفرزته.

هناك افتراض يثار بشكل خاص في الدوائر الإعلامية والبحثية الغربية بأن نتائج انتخابات تؤدي إلى إعادة انتخاب أردوغان تعني من منظور سياسي أنها مشكوك في نزاهتها. الحملة الإعلامية الغربية التي يتعرض لها أردوغان تجعل إثارة تساؤلات حول إذا ما كان سيتخلى عن السلطة بالفعل في حال هزيمته مشكوك في دوافعها. مع أن الافتراض المنطقي في تغطية انتخابات يتنافس فيها رئيس موجود في السلطة لعقدين مع معارضيه، هو أن تشمل طرح تساؤل من هذا النوع، لكنّ التركيز على هذا الجانب حصرًا من دون إثارة تساؤل في المقابل عما إذا كانت المعارضة مستعدة لتقبل الخسارة، يعمل على تشكيل تصور عام بأن أردوغان مُهدد للديمقراطية. أرى أن تشكيل مثل هذا التصور جزء من حملة الترويج الإعلامية الغربية للمعارضة.

مع ذلك، فإن العامل الأساسي في تحديد إذا ما كان أي من الطرفين سيقبل نتائج انتخابات ليست لمصلحته يعتمد على مدى إيمانه بالديمقراطية. ومن الإنصاف القول إن كل الأحزاب السياسية التركية -بما فيها المعارضة والحكومة- تؤمن بالديمقراطية إلى أبعد الحدود.

مع أن بعض الشخصيات في الحزب الحاكم كوزير الداخلية سليمان صويلو أعطى مؤشرًا مقلقا للمعارضة في الآونة الأخيرة، عندما قال إن الانتخابات قد تكون انقلابًا سياسيًا على الحكومة، إلا أن الخطاب العام لحزب العدالة والتنمية الحاكم يُظهر استعدادا لتقبل النتائج مهما كانت. المتحدث باسم الرئاسة إبراهيم قالن قال صراحة إن أردوغان سيقبل النتائج مهما كانت. مثل هذا التأكيد، في حالة سياسية وانتخابية غير مسبوقة في تاريخ تركيا الحديث، مهم لمواجهة أي افتراضات تشكك بقوة الديمقراطية التركية. كما أن الشرعية التي كسبها أردوغان على مدى عقدين انبثقت من صناديق الاقتراع. لكنه على الجهة المقابلة، لم نسمع استعدادًا صريحا من قادة المعارضة لتقبل فرضية الخسارة. ففي إحدى المقابلات التلفزيونية مع رئيس حزب "المستقبل" المعارض أحمد داود أوغلو، سعى للتهرب من سؤال محاورته عما إذا كانت المعارضة ستقبل الخسارة بوصفه السؤال بأنه ملغم.

مبررات المعارضة للتشكيك المسبق بنزاهة الانتخابات تقوم على أن المنافسة التي تخوضها غير عادلة. بمعزل عن مدى مصداقية هذا الطرح الذي يُمكن المجادلة فيه بالطبع من منظور سياسي ومادي، إلا أن التشكيك المسبق بنزاهة الانتخابات شيء والحديث عن غياب مفترض للعدالة في المنافسة شيء آخر. من حق المعارضة أن تُشكك في نزاهة الانتخابات عندما تمتلك الأدلة على حدوث مخالفات أو ما شابه، كما أن القانون يمنحها وسائل الاعتراض على النتائج عندما تقدم الأدلة.

يطرح ذلك إشكالية حول الكيفية التي يُمكن أن تتصرف فيها الأحزاب السياسية والكيفية التي يُمكن أن تعمل فيها الديمقراطية لإدارة نزاع محتمل حول نتائج الانتخابات في اليوم التالي. رغم أن الديمقراطية التركية استطاعت تكريس دورها في الحياة السياسية كمنظم لانتقال سلس للسلطة بعد الانقلابات العسكرية الستة التي شهدتها منذ عام 1960 وحتى محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في عام 2016، فإن الاستقطاب الحالي يُثير شكوكًا حول قدرة الحالة السياسية الراهنة على التعامل بسلاسة مع نتائج الانتخابات.

لتوقع ردود الفعل المحتملة، أطرح سيناريوهين: الأول يفوز فيه أردوغان والثاني يفوز فيه كليجدار أوغلو. في السيناريو الأول، لم يُعط كليجدار أوغلو إشارة واضحة على إمكانية قبوله فوز أردوغان، وقد يُشكك بنزاهة الاقتراع ويدعو المعارضة إلى الشارع للمطالبة بإعادة الانتخابات أو العصيان المدني حتى رحيل أردوغان عن السلطة.

مثل هذه الفرضية ستؤدي إلى أزمة كبيرة تتمحور حول شرعية إعادة انتخاب الرئيس. ومن غير المرجح أن يُبدي أردوغان أي تراجع لأنّ المعارضة في هذه الحالة تقود انقلابًا على الديمقراطية. أما في السيناريو الثاني الذي يخسر فيه أردوغان، فإن حقيقة أن الأخير لم يُهزم في أي انتخابات خلال عقدين تجعل من الصعب تمامًا معرفة كيف سيكون الوضع في اليوم التالي للانتخابات. لقد أثبتت الديمقراطية التركية قوتها رغم الجدل المثار في السنوات الأخيرة حول طريقة حكم أردوغان. كما أن الأتراك عمومًا (أحزابًا ومجتمعات) يؤمنون بالديمقراطية ودافعوا عنها في محطات تاريخية كثيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.