معاناة مهرجانات السينما العربية في أوروبا

الفيلم الفرنسي سمية
الفيلم الفرنسي "سمية" للمخرجين وحيد خان وعبيدة أبو أسيد 2019 (الجزيرة)

اعتادت السيدة المسلمة الفرنسية سمية أن تخلع حجابها قبل أن تدخل إلى عملها، إذ تعمل مسؤولة في شركة نقل بمطار في العاصمة الفرنسية باريس، وبعد أن تخرج من مقر العمل ترتديه مرة أخرى. وبعد أن قضت 14 عاما في وظيفتها، فوجئت بخطاب يفيد بفصلها من الخدمة. ينتابها الذهول، وتقول للمسؤولة التي سلمتها القرار إنها لم تتلق إنذارا واحدا خلال هذه السنوات، فتجيبها المسؤولة بلا مبالاة: "لقد تغيّرتِ". ولاحقا، تكتشف عبر وسائل الإعلام اتهامات لها بأنها ترتبط بدوائر إرهابية، لتنقلب حياتها رأسا على عقب، وتخوض نضالا قانونيا لإثبات حقها في أحداث الفيلم الفرنسي "سمية" للمخرجين وحيد خان وعبيدة أبو أسيد، الذي أُنتج عام 2019.

يعرض الفيلم معاناة المسلمين من نساء ورجال وأطفال مع تطبيق قوانين الإرهاب في فرنسا، إثر هجمات باريس عام 2015. وهو مستوحى من أحداث حقيقية، كما يقول مخرجا الفيلم اللذان جمعهما أول لقاء في "مهرجان المختار السينمائي" بباريس المتخصص في عرض القضايا العربية والإسلامية. وقد زارني قبل عدة سنوات في لندن عدد من مؤسسي المهرجان، وحكوا لي أنهم أسسوه ليكون نوعا من الرد الفني على الإساءة المتكررة في الإعلام الأوروبي لسيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ ولذلك سموه "المختار".

تخصص المهرجان -أول ما بدأ- في الأفلام القصيرة، وكان القائمون عليه من شباب الجيل الثاني من المهاجرين العرب والمسلمين في فرنسا، ثم خفتت أنشطته شيئا فشيئا، كحال كثير من المهرجانات السينمائية من هذا النوع في أوروبا. وقد سألت المؤسسين حين التقيتهم عن أساليب التمويل، فقالوا إنهم قاموا بجولة على عدد من رجال الأعمال العرب والمسلمين في فرنسا وأيضا المحلات والمطاعم الحلال لإقناعهم بمسؤوليتهم الاجتماعية تجاه هذا النوع من المشاريع، ونجحوا بالفعل في تأمين تمويل في السنوات الأولى. ولم أجد في السنوات الأخيرة نشاطا يذكر للمهرجان، وهو ما يرجح أنه تراجع أو توقف.

يفتخر المهرجان بأنه وفر بيئة خصبة للمخرجين الموهوبين مثل خان وأبو أسيد ليطورا معا فكرة فيلم "سمية". وقد أجرت الدكتورة إيمان فوال، من جامعة محمد الصديق بن يحيى- جيجل في الجزائر، دراسة نقدية حول الفيلم خلصت فيها إلى نقاط هامة، منها أن الفيلم نجح في أن يجسد الصراع والجدل بين شخصيات المسلمين في فرنسا بشكل يكسر واحدة من الصور النمطية؛ وهي أن المسلمين هناك كتلة واحدة متجانسة، وهي إحدى الأساطير المؤسسة لظاهرة الإسلاموفوبيا؛ إذ أظهر الفيلم المشارب المختلفة للمسلمين وتباين ردود فعلهم تجاه ما يتعرضون له من مؤثرات شخصية وعامة. كما أظهر جانبا مهما من العنصرية يتجاوز التصرفات الفردية المدانة إلى العنصرية المؤسساتية الكامنة في سلوك أجهزة الدولة الفرنسية، وتفاصيل النضال القانوني والقضائي لمكافحة هذا السلوك.

مهرجانات حققت نجاحا

لقد حرم خفوت نشاط "مهرجان المختار السينمائي" ظهور أفكار مشابهة مثل فيلم "سمية". وهي ربما عادة العواصم الأوروبية التي لا تحقق فيها مهرجانات السينما العربية نجاحا يذكر، مثل باريس ولندن وغيرها من العواصم. والسبب يتمثل في زيادة الأعباء المالية على هذه التجارب وغياب الدعم الكافي. وهذا الوضع يختلف عن تجارب المهرجانات السينمائية العربية في المدن الأصغر حجما، خاصة إن كانت بها جالية عربية ومسلمة، مثل مهرجان الفيلم العربي في زيورخ بسويسرا الذي يقام كل عامين منذ عام 2012. وبخلاف عديد من مهرجانات السينما العربية الأخرى، لفت نظري أنه قائم على أساس شراكة مع مؤسسة فيلم "بوديوم زيورخ".

هناك أيضا عدة مهرجانات أثبتت حضورا وانتشارا على الصعيد السينمائي والجماهيري. وهي ربما الاستثناء الذي يثبت القاعدة. وهي -بلا شك- تجارب تستحق الاحتفاء والتقدير، والأهم من ذلك رصد عوامل نجاحها لتقييم هذه التجربة في الإطار الأوروبي الأوسع. من هذه المهرجانات "مهرجان مالمو للسينما العربية" في السويد، الذي يصفه القائمون عليه المهرجان بأنه أكبر مهرجان متخصص في السينما العربية خارج العالم العربي، والذي بدأ عام 2011، وهو يعد واحدا من أكبر المهرجانات جنوبي السويد.

أول ما يسترعي الانتباه في تجربة نجاح مهرجان مالمو بالسويد أنه أقام جسورا ليس مع العالم العربي وقضاياه وحسب، ولكن مع المؤسسات المحلية السويدية أيضا. وقد تسلم مؤخرا مؤسس ومدير المهرجان المخرج محمد قبلاوي جائزة مدينة مالمو في فئة الإبداع لعام 2023 التي مُنحت للمهرجان. والمجالس المحلية الأوروبية -بشكل عام- هي هيئات منتخبة لها صلاحيات إدارية واقتصادية واسعة تشمل جوانب ثقافية وتعليمية وخدمية كبيرة. وهي ليست منفصلة عن الحكومة المركزية بشكل عام، ولكن هناك قدرا كبيرا من اللامركزية بشكل يسمح لها بدعم وتشجيع مثل هذه المبادرات.

وثانيا، هذا المشروع يتطور باستمرار بشكل مهني وجذاب. فهو يشمل -إلى جانب المهرجان السنوي- عروضا أخرى على مدار العام ومنتدى لتشجيع الإنتاج السينمائي المشترك بين السويد والعالم العربي، حيث يلتقي صناع الأفلام والممولون وشركات التوزيع. وهو ديدن المشروعات الثقافية الكبرى التي تملك خطة إستراتيجية واضحة وتستفيد من كافة الإمكانيات المتاحة.

تتشابه بعض عناصر نجاح مهرجان مالمو مع "مهرجان روتردام للفيلم العربي" في هولندا، حيث تدعم بلدية هولندا المهرجان من ناحية قاعات العرض وبعض الخدمات الأخرى. وأذكر أن أول ما وقعت عيناي عليه، حين زرت روتردام قبل عدة سنوات، ملصق دعائي ضخم يحمل شعار المهرجان واسمه باللغتين العربية والهولندية بجوار محطة القطار الرئيسية في المدينة مع تفاصيل برنامج المهرجان. وكان طريقة عرض الملصقات تشعر الزائر بأنه أمام حدث كبير في هذه المدينة الصغيرة حجما التي تحتوي على أحد أهم الموانئ في العالم. وقد نجح المهرجان خلال السنوات الماضية في اجتذاب عدد من نجوم السينما العربية، الأمر الذي جعله في بؤرة الاهتمام رغم أنه لم يتطور كمؤسسة أو على صعيد التمويل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.