فقدان الثقة وهدم المجتمعات (2)

لا يمكن أن ينصلح حال المجتمع وينهض من دون أن يغذي أفراده حسن الظن في ما بينهم (شترستوك)

من المعروف أن عدوى انتشار الشر والأخبار السيئة الكاذبة والإشاعات وترويج النيات المغلوطة أسرع كثيرا من انتشار الأخبار السارة والنيات الحسنة، وأي أفكار إيجابية في المجتمع.

وتوجد في المجتمعات آذان كثيرة ترغب بشدة في السماع عن نواقص وخفايا الأشخاص الذين اشتهروا بصلاحهم وعملهم الخيري وفضائلهم، وتكون هذه الآذان مستعدة دائما ومتحمسة لسماع مثل هذه الغيبة من دون السؤال عنها وتمحيصها وإخضاعها للتحقيق والتأكد. كفى بالمرء شرًّا قبول الخبر من دون السؤال عن مصدره والتحرّي، فكيف بمحاولة نشره؟!

يميل الناس دائما إلى البقاء في غرف الصدى الخاصة بهم، بدل البحث بهمة والتأكد قبل تداول أي معلومة، لا سيما لو كانت أخبارا عن الناس.

طالما كان هدف هذه الأخبار التضليل والتشويه وتمويه الأخبار الأخرى الصحيحة الأصلية. الهدف دائما هو تضليل الناس عن الحقيقة، بتقديمها في صورة تجعلهم يصدقونها على الفور. أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي مساهمة في هذا الأمر أسرع كثيرا من ذي قبل، الأمر الذي بدوره يفكك تماسك البناء النفسي والاجتماعي للناس أسرع كثيرا.

ويبدو أن هناك حالة نفسية تتلبس الناس بمجرد معرفتهم أن هناك شخصا صالحا يقوم بأعمال سيئة، وتتمثل هذه الحالة في شعور الناس بأن هذه المعرفة كأنها تزيل عنهم وعن كواهلهم عبء ضرورة فعل الخير والبحث عنه وتبنيه حتى لو كان أهل الأرض كلهم سيئين. بعضهم يسكّن ضميره لمجرد معرفته أن الأشخاص الصالحين يذنبون وقد يحدث وتصدر منهم النقائص، وهذا لا يمكن أن يكون عذرا كافيا بأي حال من الأحوال للبعد عن الخير والانغماس في أجواء الضغينة والشر التي يمكن أن تسود المجتمع طبقا لذلك.

إنها مجرد خديعة نفسية كاذبة تقوم بها نفوسهم، راحة غير عادلة وخاطئة، لكنها علم نفس يبرر الشر ويقوّيه وينشره عن طريق تغذيته أكثر. إنها مجرد حيلة من حيل كثيرة تستخدمها أنفسنا للتذرّع بذريعة صالحة لنا لعدم القيام بأشياء جيدة لا نريد القيام بها.

ولذلك يمكن للأخبار الصحيحة أو الخاطئة المتعلقة بارتكاب الخطأ من قبل أولئك المعروفين في المجتمع بصفاتهم الحميدة أن تجد لها زبائن بسهولة بالغة. ثمة عزاء يجده الناس في معرفتهم أن هناك شرا داخل جميع الناس.

لا يمكن أن ينصلح حال المجتمع وينهض من دون أن نجتهد ونحاول أن نغذي حسن الظن بقدر ما نشاء ردًّا على الأخبار السيئة التي سمعناها عن شخص صالح، فمنذ اللحظة التي بدأت فيها هذه الأخبار الانتشار أصاب ما يكفي من الشر قلوب الناس.

إن أعظم عقاب يتعرض له الكاذبون واللصوص ليس فقدان ثقة الآخرين، بل عدم قدرتهم على الثقة في الآخرين لأنهم يعتقدون أن الجميع مثلهم. إن انعدام القدرة على الثقة هو في الواقع عقاب عظيم

على الدولة والآلة الإعلامية ومؤسسات المجتمع المدني أن تكون دائما متيقظة لهذا الأمر، وأن تعمل على دحضه وإيصال الحقيقة للناس بكافة الطرق الممكنة. لكن هذا أيضا لا يلغي العبء المجتمعي الواقع على الناس، والذي يجب أن يجتهدوا في نشر الوعي بينهم على ضرورة التحقق والتأكد قبل تداول أي معلومات يبدو أنها مثيرة عن حياة الناس، لا سيما المشهود لهم بالصلاح.

فقدان الثقة في قدرة الناس على الخير ونشره وأن كل خيره ما هو إلا قناع يتلبسه بعض الناس لإخفاء وجوههم الحقيقية التي لا تخلو من شر؛ يجعل هناك نزعة قوية تجاه الشر من قبل الجميع.

على سبيل المثال، هناك حقيقة تقول إن كل إنسان له الحق في الثروة التي جمعها، ورغم أنها قد تبدو صحيحة فإن من يتمادى في الادّخار، ولا يساعد أي شخص في حياته، ولا يهتم بمشاكل أحد تجده يصبح قادرًا على منع خير الآخرين أيضا، وذلك من خلال إلقاء اللوم على جميع أنواع الأنشطة الخيرية، واتهامها بالكذب والاحتيال وسرقة أموال الناس.

في هذه الحالة، لا يقتصر الأمر لدى أولئك الناس على أنفسهم بأن يصبحوا بخلاء، بل ينقلون أيضًا فكرة البخل إلى الآخرين. إن تجفيف الخير، وعمى الضمائر، وتلطيخ القلوب ليس أسلوبًا جديدًا في السياسة وفي بناء مجتمع قوي ومتماسك، إنه نموذج بشري قديم ضارب في القدم، ولا بد لكل مجتمع أن يكون قادرا على مواجهته والقضاء عليه في كل زمان ومكان.

وجود هذا النمط القديم السخيف في الساحة السياسية له تكلفة اجتماعية شديدة وباهظة؛ إذ إنه يضر بثقة الناس ببعضهم على نحو لا يمكن إصلاحه إلا بعد عقود وعقود.

إن مستوى الثقة هو القيمة التي تجعل قوة المجتمع ممكنة، بل وتحقق له خاصية كونه مجتمعًا في حد ذاته. في المجتمع الحديث يُنظر إلى الثقة على أنها أغنى "احتياطي لرأس المال الاجتماعي". إن وجود مجتمع يتكون من أشخاص لا يثق بعضهم في بعض ولا يحترم بعضهم بعضا هو أعظم كارثة يمكن أن تحدث لأي بلد. الثقة في المجال السياسي أو التجاري يُنظر إليها على أنها الأداة الأولى التي قد تُستخدم بوحشية للقضاء على المنافسين، وللأسف ليست لدينا أي برامج ثقافية جادّة أو حتى دينية من شأنها أن تؤسس هذه الثقة وتحمي ما هو موجود.

إن أكبر كارثة يمكن أن تحدث لأي إنسان ليست أن الآخرين لا يثقون فيه، هذا سيئ بما فيه الكفاية بلا شك، لكن الأسوأ من ذلك أن يكون نفسه لا يثق في الآخرين ولا يستطيع ذلك. هؤلاء الناس لا يمكن أن يحيوا أبدا حياة طبيعية. حتى إن أعظم عقاب يتعرض له الكاذبون واللصوص ليس فقدان ثقة الآخرين، بل عدم قدرتهم على الثقة في الآخرين لأنهم يعتقدون أن الجميع مثلهم. إن انعدام القدرة على الثقة هو في الواقع عقاب عظيم.

إن تلقي الثقة والعيش في بيئة من الناس يمكن الوثوق بهم من أبسط الحقوق الأساسية للإنسان، وهي التي تضمن له قدر من الحب والسواء النفسي الذي يمكّنه من الاستمرار والعيش. تأسيس هذه الثقة ينبع في المقام الأول من الذات، ويبدأ من الثقة في الناس في مجالات أعمالهم. إنها عملية متبادلة بين الجميع؛ فبقدر ما يثق الإنسان في الآخرين بقدر ما يعود ذلك إليه في صورة رصيد من الثقة في نفوس الآخرين له.

إننا لا نقول إن السذاجة أو الإيمان الساذج بنقاء الناس هو الطريقة الوحيدة لضمان الثقة، ولكن أن يكون الفرد يقظًا، وقادرًا على الثقة في الناس وتمييز الصحيح من الخطأ، وقادرا على تمييز ما يُقدم له من أخبار عن الناس وصلاحهم. أي تجمع بشري سيكون فيه كل الآفات؛ الاستغلال والسوء والشر، لكن هذا لا يعني أن كل من سنقابلهم سيتّسمون بهذه الصفات، ويجب أن نكون قادرين على توسم الخير في الناس.

من المهم الانتباه إلى تجنب إيقاظ فتنة محتملة من خلال معاملة الناس على أنهم لصوص محتملون؛ فالانفتاح قدر الإمكان على الشفافية والمساءلة في مؤسساتنا غرس لمستوى عالٍ من الثقة بعدم أخذ أي خطوة لم تخضع للمساءلة.

لا شك أن المؤسسات الخيرية قد أنجزت أشياء مهمة وعظيمة، ولكن تقع عليها أيضًا مسؤولية ضمان عدم ترك الناس يلتمسون أعذارًا لأنفسهم، وكذلك ضمان الثقة التي يمكن أن تصبح بسهولة هدفًا في المجتمع، وضمان عدم إساءة استخدامها، وإبقائها حيّة دائمًا في نفوس الناس.

إن الثقة شعور ودود، وفي الواقع إن الإجراءات التي تضمن انتشار هذا الشعور في المجتمع بأسره تربط المجتمع بعضه ببعض على أساس الصداقة. والصداقة تحتل مكانة مهمة كونها أهم هدف للسياسة لأنها أهم فضيلة للمجتمع السليم.

الصداقة التي أهملت نوعا ما في الفلسفة السياسية الحديثة تطرق الآن بابنا مرة أخرى بإصرار لتصبح أحد الموضوعات المهمة في الفلسفة السياسية. إن أساس الصداقة السياسية هو الجدارة بالثقة، أي إمكانية التأكد من أيدي الآخرين وألسنتهم وظهورهم، ولكن مع القدرة على الثقة في الوقت نفسه.

هذه الأمانة وهذه الثقة تجعلان جميع الواثقين أصدقاء مع الآخرين. وعندما يسمع الأصدقاء أخبارًا عن بعضهم، فإنهم لا يصدقونها من دون بحث وتساؤل، وحتى عندما يسمعونها أول مرة يتجلى موقفهم في تجنب سوء الظن والرد بحسن الظن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.