دور وسائل الإعلام في مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية

شركة تأمين الودائع الفدرالية الأميركية (FDIC) كشفت أنها أغلقت بنك وادي السيليكون (SVB) (غيتي إيميجز)

يشكل انهيار بنك "سيليكون فالي" (SVB) بداية أزمة اقتصادية عالمية جديدة يمكن أن تؤثر على النظام العالمي كله، وأصبحت كل دول العالم تشعر بالخطر؛ وهنا نحن بصدد الحديث عن الكيفية التي ساهمت وسائل الإعلام بها في تشكيل هذه الأزمة.

والخوض في هذا السياق يحتاج لشجاعة كبيرة من علماء الإعلام الذين يمكن أن يبرهنوا على أن تحيز وسائل الإعلام للرأسمالية قلل من قدرتها على تحذير الناس من المخاطر، وكشف مساوئ النظام الرأسمالي.

وبعد أزمة عام 2008، أشارت بعض الدراسات إلى أن وسائل الإعلام أخفت الكثير من المعلومات عن الفضائح المحاسبية للشركات الأميركية، ولم تقم بدورها في نقد النظام الرأسمالي، والكشف عن المخاطر التي يتعرض لها هذا العالم بسبب غطرسة هذا النظام، وتحيز وسائل الإعلام له، وعدم قدرتها على نقده.

دراسة المضمون الذي تقدمه وسائل الإعلام الغربية توضح أنها تركز على التغطية الوصفية للأحداث الاقتصادية، وأنها لا تقدم رؤية نقدية لهذه الأحداث بالرغم من وضوح السلبيات الناتجة عنها

الوفاء بحق الجماهير في المعرفة

تحيز وسائل الإعلام للنظام الرأسمالي شكل قيودا على حرية الإعلاميين في البحث عن الحقائق ونشرها؛ ففي الكثير من الحالات كان الصحفيون يعرفون الحقائق لكنهم لم يتمكنوا من نشرها؛ وهذا يفتح المجال للتفكير في حرية الإعلام والكفاح ضد القيود التي فرضها النظام الرأسمالي على الإعلاميين لمنعهم من القيام بأهم وظائفهم وهي الوفاء بحق الجمهور في المعرفة.

وكان من أهم نتائج تحيز وسائل الإعلام للنظام الرأسمالي أن أصبحت تغطية وسائل الإعلام للأحداث الاقتصادية جافة ومملة وكئيبة ولا تجذب اهتمام الجمهور؛ حيث يتم التركيز على أسعار الأسهم والسندات، وأرباح الشركات وتقديم صورة إيجابية للنظام الرأسمالي تجعل الناس يشعرون بالأمان؛ بينما تحيط المخاطر بأموالهم؛ فتلتهم مدخراتهم فجأة ليتحولوا إلى فقراء.

ولأن وسائل الإعلام تحاول أن تُخفي تحيزها للرأسمالية في ثوب الموضوعية فإنها تبالغ في الاعتماد على الخبراء في مجال السوق، ومعظمهم له علاقات قوية بالشركات التي تستخدمهم في الدفاع عن النظام الرأسمالي وخداع الجماهير، وكثيرا ما تصنع الشركات شهرة هؤلاء الخبراء وتحولهم إلى نجوم وتقدمهم لوسائل الإعلام للرد على الأسئلة بإجابات مبسطة تساهم في تضليل الجمهور عن طريق إعطاء انطباع زائف بالأمان والثقة وعدم وجود مخاطر على النظام المصرفي.

الاعتماد على المصادر الرسمية

يفضل الإعلاميون الاعتماد على المصادر الرسمية؛ لذلك طورت الحكومات والشركات قدرات هذه المصادر في تقديم المعلومات للإعلاميين والإجابة على أسئلتهم بما يحقق مصالح المؤسسات التي ينتمون لها، وهم يخفون الكثير من المعلومات التي يحتاجها الجمهور.

ويشكل الاعتماد على المصادر الرسمية تحيزا للرأسمالية، فالمضمون الذي تقدمه هذه المصادر يكون أقرب إلى الدعاية، فهم يستهدفون دائما الدفاع عن المؤسسات والشركات وتشكيل صورة إيجابية لها.

ويرى الإعلاميون أن الاعتماد على هذه المصادر أكثر أمنا، فلا يتعرضون للعقوبات أو النقد من رؤسائهم حتى إن ثبت أن المعلومات غير صحيحة، كما أن المصدر الرسمي يكون في نظر الإعلاميين موثوقا به. لذلك لعبت المصادر الرسمية دورا مهما في التقليل من جودة المضمون الذي تقدمه وسائل الإعلام، فهذا المضمون يقوم على البيانات والمعلومات التي يتم تصنيعها لإعطاء الانطباع باستقرار النظام المالي وقوته.

دور أجهزة العلاقات العامة

تمكنت أجهزة العلاقات العامة من تطوير إمكانياتها في إنتاج المضمون الذي يجذب الجمهور، وتقديمه لوسائل الإعلام؛ لذلك تقوم الكثير من المؤسسات الإعلامية بالاستغناء عن الكثير من الصحفيين المحترفين وتقوم بنشر القصص والأخبار التي تقدمها لها أجهزة العلاقات العامة.

وأثّر ذلك بشكل سلبي على نفسية الصحفيين ودفع الكثير منهم إلى البحث عن فرص للعمل في أجهزة العلاقات العامة التي تمنحهم مرتبات تفوق بكثير ما يحصلون عليه من مؤسساتهم الإعلامية، وجمع بعضهم بين العمل في الإعلام والعلاقات العامة. وأدى ذلك بدوره إلى زيادة تحيز وسائل الإعلام للنظام الرأسمالي، وعدم القدرة على نشر الحقائق التي تكشف مساوئ هذا النظام.

إعلام بدون نقد

دراسة المضمون الذي تقدمه وسائل الإعلام الغربية توضح أنها تركز على التغطية الوصفية للأحداث الاقتصادية، وأنها لا تقدم رؤية نقدية لهذه الأحداث بالرغم من وضوح السلبيات الناتجة عنها.

وعلى سبيل المثال، لم تقم وسائل الإعلام الغربية بنقد الكثير من القرارات التي تؤثر بشكل سلبي على الاقتصاد العالمي مثل قرارات رفع الفائدة التي كانت من أهم العوامل التي أدت إلى انهيار بنك وادي السيليكون وزيادة البطالة والفقر في العالم.

كما أن هذه الوسائل لم تقم بوظيفتها في توضيح المخاطر الناتجة عن تراكم الديون على دول العالم بالرغم من وضوح حقيقة أن هذه الدول سوف تعجز في النهاية عن تسديد هذه الديون التي تتراكم فوائدها لتزيد على الدخل القومي لبعض الدول، مما يدفعها إلى الإفلاس في النهاية.

إن ارتفاع أسعار الفائدة يدفع الكثير من الشركات والدول إلى الإفلاس بعد أن تتزايد معدلات الفقر والبطالة، وهذا يشكل خطرا على الاستقرار العالمي، فالمجاعات قادمة والفقراء لن يتحملوا مرارة العيش طويلا وسيندفعون لتحقيق تغيير عالمي سيصل صداه إلى كل دول العالم مهما كانت قوة اقتصادها.

وهذه بعض نتائج تحيز وسائل الإعلام للرأسمالية وتخليها عن مسؤوليتها في نقد القرارات التي لا تراعي الجوانب الاجتماعية، وحماية الفقراء، وبذلك تتحمل وسائل الإعلام المسؤولية عن الأزمة الاقتصادية العالمية؛ لأنها اكتفت بنشر الأخبار ولم تقم بتوضيح المخاطر الناتجة عنها للجمهور.

كلب الحراسة نائم

من أهم وظائف وسائل الإعلام أن تقوم بحماية المجتمعات من الانحرافات والفساد، وتحذيرها من المخاطر والكوارث لكي تتمكن من مواجهتها بالتفكير في حلول جديدة للمشكلات، وهي الوظيفة التي يطلق عليها الغرب "كلب الحراسة".

ولا شك أن تضليل الرأسمالية للشعوب بهدف نهب ثرواتها وإخضاعها من أهم أشكال الفساد؛ لكن وسائل الإعلام لم تتمكن من نشر المعلومات عن الفساد الرأسمالي، وتخلت عن وظيفتها الاستقصائية، وهذا يؤثر على مستقبل الإعلام لأن الجماهير أصبحت تدرك أن الرأسمالية استخدمت الإعلام في خداعها وتضليلها.

أين المناقشة الحرة؟

إن إدارة المناقشة الحرة حول كل قضايا المجتمع من أهم وظائف وسائل الإعلام، لكن هذه الوسائل تدير الكثير من المناقشات حول قضايا لا تهم المجتمعات، وتؤدي إلى إلهاء الجماهير وتغييب وعيها مثل قضايا الجندر والمتحولين جنسيا، بينما لم تستطع أن تدير حوارا حول المسؤولية الاجتماعية للدول والشركات أو مخاطر قسوة الرأسمالية ووحشيتها ونهبها لثروات الشعوب أو مخاطر الفائدة.

وهذا يعني أن سيطرة الرأسمالية على وسائل الإعلام كان لها الكثير من النتائج السلبية على قدرة المجتمعات على الإبداع والابتكار، وإنتاج أفكار وحلول جديدة للمشكلات.

الديمقراطية ورأس المال

من أهم ما تتفاخر به الدول الغربية على العالم أنها تقوم بإدارة شؤونها عن طريق مؤسسات ديمقراطية منتخبة تقوم بمناقشة الشؤون العامة بدون قيود. وحرية الإعلام من أهم أركان الديمقراطية، لكن تلك المؤسسات عجزت عن حماية المجتمعات من مخاطر وحشية الرأسمالية وقسوتها، أو مناقشة قضايا الفساد وأسعار الفائدة، لذلك لم تستطع وسائل الإعلام أن تعتمد على نواب الشعب -الذين يتمتعون بالحصانة- في نشر الحقائق عن الفساد الرأسمالي.

ويوضح ذلك قوة العلاقة بين حرية الإعلام وقدرة المؤسسات الديمقراطية (البرلمان) على مناقشة قضايا المجتمعات، فهل فقد البرلمان حريته بسبب سيطرة الرأسمالية عليه كما فقدت وسائل الإعلام حريتها؟

إن الأزمة الاقتصادية تشكل اختبارا قاسيا للديمقراطية الغربية ولحرية الإعلام، فالجماهير تريد الحرية لتكشف لها وسائل الإعلام الحقائق التي تحمي حقوقها، وتجنبها السقوط في براثن الفقر والجوع، وعندما يفقد الناس مدخراتهم سيتهمون وسائل الإعلام بتضليلهم وتزييف وعيهم.

الاستكبار الرأسمالي على الشعوب

يدرك الباحثون في مجال الإعلام أن هناك حالة استكبار غربي رأسمالي أثرت على قدرة وسائل الإعلام على البحث عن حلول جديدة للمشكلات في حضارات أخرى، لذلك استسلمت المجتمعات الغربية لمعالجة المشكلات الاقتصادية برفع أسعار الفائدة تماما، كما لجأت الدول الضعيفة للاقتراض من البنوك وصندوق النقد الدولي، فغرقت في الديون وفوائدها، وأصبح العالم كله ينتظر أن تعلن إفلاسها كما تم إعلان انهيار بنك وادي السيليكون.

وهذا الاستكبار الغربي الرأسمالي قيد قدرات وسائل الإعلام على نشر أفكار جديدة، أو إدارة مناقشة حرة حول قضايا الديون والفقر والمجاعات وسقوط الدول، كما قيد المجال العام فلم تتمكن القوى السياسية والفكرية من تقديم برامج جديدة لإنقاذ العالم الذي يسير بسرعة نحو تدمير نفسه بقسوة الرأسمالية وجشعها واستكبارها.

والدول الغربية صنعت المشكلة حين تصورت أن نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي يعني انتصارا حاسما للرأسمالية ونهاية التاريخ، وأن أميركا تستطيع أن تفعل ما تشاء وتدير صراعات العالم بقوتها الصلبة.

ولكن السؤال الذي يجب أن يفكر العلماء الغربيون في إجابة جديدة له هو: هل تثور الشعوب ضد الاستكبار الغربي وقسوة الرأسمالية ووحشيتها لتبحث عن حلول جديدة لمشكلاتها، وتعيد بناء المجتمعات على أسس جديدة؟

مرحلة جديدة للكفاح من أجل حرية الإعلام

إن الشعوب تحتاج لأن تبدأ مرحلة جديدة للكفاح لحماية حرية الإعلام، وأن يشارك الإعلاميون مع شعوبهم في بناء نظم إعلامية توفر المعرفة، وتدير المناقشة الحرة، وتحمي المجتمعات من الانحرافات والفساد، وتعبر عن إرادة الشعوب.

إن تحرير الإعلام من التحيز للرأسمالية وفتح المجال العام لمناقشة أفكار جديدة، وتشجيع الشعوب على الإبداع والابتكار بنشر الأفكار الجديدة في وسائل الإعلام، يمكن أن يزيد قدرات الشعوب على مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية التي تهدد النظام العالمي كله، وتؤدي إلى زيادة الفقر والجوع.

إن العالم يحتاج إلى نظريات جديدة تشكل أساسا لتحرير الإعلام من السلطات والرأسمالية ليعبر عن إرادة الشعوب، وينشر مشروعات حضارية جديدة لإنقاذ العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.