صرخة القرية والأطباء المصريين في دراما "بالطو"

المسلسل المصري بالطو
المسلسل المصري بالطو (مواقع التواصل)

يدخل الدكتور عاطف -وهو مدير وحدة صحية ريفية في مصر- إلى عيادة الأسنان في الوحدة ويطلب الاطلاع على سجل المرضى بالعيادة. تصطحبه الممرضة المسؤولة إلى غرفة طبيب الأسنان الذي يطلب منها ومن مريض بالعيادة المغادرة قبل أن يدعو المدير للجلوس على كرسي المرضى بحجة الكشف عليه. يباغت طبيب الأسنان المدير بتوثيق معصميه عنوة في الكرسي ووضع فاتحة فم بين أسنانه ليمنعه من الكلام، ويهدده بالويل والثبور إن حاول الاقتراب من عيادة الأسنان في الوحدة أو قسم التمريض أو الممرضات أو الصيدلية، حتى تنتهي مدة خدمته بالمكان في دراما "بالطو" للمخرج عمر المهندس إنتاج 2023.

المسلسل مكون من 10 حلقات وأحدث صخبا اجتماعيا وفنيا هائلا لا يتناسب مع درجة شهرة الممثلين أو إمكانياته الإنتاجية المادية. والسبب يعود إلى أنه قدم رؤية درامية واقعية غير مألوفة في قالب ساخر عن أوضاع الأطباء في مصر بالإضافة للأوضاع الصحية والاجتماعية في القرى بشكل استحوذ على اهتمام المشاهدين قبل أيام قليلة من بدء موسم رمضان الدرامي. الأمر الذي سيضع عديدا من المسلسلات الرمضانية في موضع مقارنة صعب.

المفارقة أن المسلسل هو التجربة الأولى في السيناريو للطبيب الشاب أحمد عاطف فياض نقلا عن كتابه الساخر "بالطو وفانلة وتاب" والذي يروي فيه مفارقات وتناقضات بين ما يتخيله الناس عن الوضع الاجتماعي والمهني للأطباء في مصر وحقيقة الأمر على أرض الواقع عبر سرد تجربته الذاتية. ففي كتابه يروي رحلته بعد انتهاء دراسة الطب في مدينة طنطا وسط الدلتا ومدة الخدمة الإلزامية التي يجب أن يعمل بها الأطباء في مصر وكيف أن نصيبه كان العمل في قرية نائية شمال الدلتا. وهو كتاب يفصّل بشكل غير مباشر حديث الأوساط الطبية المصرية عن صعوبة ممارسة المهنة في البلاد وقلة الإمكانيات قبل أن يتحول الأمر بعد ذلك إلى ظاهرة هجرة مهنية جماعية أصبحت حديث وسائل الإعلام المحلية والدولية مؤخرا.

يعج المسلسل بالمواقف الطريفة خفيفة الظل وعميقة المعنى تمثل صراعا بين طبيب شاب جاء ليتدرب فوجد نفسه مديرا لوحدة صحية كاملة بسبب وفاة المدير المفاجئة، وبين العاملين في الوحدة من ممرضين وإداريين ومرضى.

يكتشف المشاهد مع الوقت أن جميع أطراف هذا الصراع هم في حقيقة الأمر ضحايا ويدفعون ثمن ذنب لم يرتكبونه بسبب ضعف الإمكانيات المادية وقلة الكوادر البشرية. كما يرسم المسلسل صورة أقرب لواقع القرية المصرية ومشاكلها التنموية والعلاقات الاجتماعية والإنسانية بين أفرادها وصعوبة تأقلم طبيب شاب جاء من العاصمة القاهرة مع عادات وتقاليد أهل القرية.

دراما القرية المصرية قديما وحديثا

يمثل الكتاب والمسلسل صرخة من الأدب والإبداع الواقعي الجديد الذي يبرز الهوة التي تفصل كثيرا من الإنتاج الدرامي الحديث عن واقع الناس ومشاكلهم الحقيقة. والواقعية هنا لا يقصد بها استنساخ الواقع أو تقريره أو الحديث المباشر عنه ولكن تحويل مادته إلى عمل إبداعي يستطيع المشاهد أن يربط بسهولة بينه وبين الواقع الحقيقي.

بعبارة أخرى، هو اقباس جوهر متغيرات الواقع وإعادة هندسته جماليا. والطبيب الشاب أحمد عاطف فياض هنا يسير على خطى رواد الواقعية الأوروبية مثل تشارلز ديكنز في إنجلترا وإميل زولا في فرنسا. والتشابه هنا لا يشمل اللغة الأدبية أو جماليات السرد، فقد كتب كتابه مع الأسف باللغة العامية بطريقة يمكن أن تثير ضحك من اعتاد قراءة منشورات الفيس بوك المطولة، غير أنها أبعد ما تكون عن جماليات الأدب. إنما المقصود هو قدرته على تحويل معاناة شخصية عامة وعميقة إلى نص كوميدي مقروء ومرئي.

يمثل فياض والمخرج عمر المهندس وعدد من أبطال العمل الشباب نموذجا للجيل "زد" (Z)؛ وهم مواليد منتصف التسعينيات وحتى العقد الأول من القرن الـ21. وهو جيل يوصف بأنه متصل تكنولوجيا بالعالم ومنفصل واقعيا عن مجتمعاته المحلية. كما أنه يمتلك كثيرا من المعلومات ويفتقد كثيرا من المهارات ويعاني من القلق والاكتئاب. وقد جسد المسلسل مجموع هذه المفارقات على مستوى ممارسة المهنة والعلاقات الإنسانية بين الزملاء وأهالي القرية. فقد كانت زيارة الطبيب الشاب للقرية وكأنه يزور عالما آخر وليس مكانا يبعد بضع ساعات فقط عن مدينته بشكل يوضح الهوة الديموغرافية والطبقية التي يعيشها أبناء القاهرة ومعظم المدن المصرية الكبرى عن واقع الحياة في الريف الذي يشكل الغالبية العظمى من جغرافيا وسكان البلاد.

لقد جسدت الأجيال السابقة هذه العلاقة الملتبسة بين أبناء القاهرة والمدن الكبرى من جهة والريف من جهة أخرى في روايات وأعمال سينمائية وتلفزيونية سابقا. لكن المقارنة اقتصرت على بعض المشاكل الخدمية والإدارية في رواية "يوميات نائب في الأرياف" عام 1937 للأديب توفيق الحكيم عن قصة وكيل نيابة في السلك القضائي جاء تعيينه في إحدى القرى والتي تحولت إلى فيلم ومسلسل بعد ذلك. ووصل الأمر إلى تجسيد هذه العلاقة كملاذ آمن لسكان القاهرة من زحام العاصمة وجفاف العلاقات الاجتماعية بها في فيلم "خرج ولم يعد" عام 1984 للمخرج محمد خان حين ذهب بطل الفيلم الممثل يحيى الفخراني إلى قريته لقضاء مصلحة لمدة يوم واحد فقرر البقاء هناك هروبا من مشاكله في القاهرة.

أما في مسلسل "بالطو" فنحن أمام واقع مستقر في القرية يحاول التأقلم مع الإمكانات المحدودة ولا يقبل بالوافد الجديد من القاهرة الذي جاءه بأمور "نظرية" على حد وصف طبيب الأسنان في الوحدة. كما أن هذا الوافد يريد أن يعود إلى القاهرة في أقصى سرعة ولا يرغم كلا الطرفين على البقاء معا سوى الإدارة الحكومية العليا ليتأقلم الطبيب شيئا فشيئا مع واقع القرية. وانتهى المسلسل بطريقة لا يمكن معها معرفة ما حدث للشاب بعد ذلك. وهي نهاية شبه مفتوحة أثارت شهية المشاهدين لجزء ثانٍ لم يَعد به المؤلف وإنما قال إنه إن حدث فسيكون في جودة المستوى الأول ذاتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.