الفضاء السيبراني.. إلى أين يتجه العالم؟

يؤدي التجسس الإلكتروني وظيفة استخراج المعلومات الحساسة والمحمية، إما لغرض التجسس الصناعي (Getty)

في ظل تغلغل تكنولوجيا الاتصال الرقمية ودخولها معظم القطاعات الحياتية، وبسبب انتشار الشبكة العنكبوتية الواسع في حياتنا البشرية بعد أن ارتفع عدد مستخدمي الإنترنت على مستوى المعمورة حتى كتابة هذا السطور إلى ما يقارب نحو 4.95 مليارات شخص، وذلك وفقًا لإحصاءات عام 2022، وهذا الرقم يعادل تقريبًا 62% من إجمالي سكان العالم، وهناك أكثر من 1.83 مليار موقع إلكتروني عالميا في عام 2021.

وتشهد شبكة الإنترنت نموًا متسارعًا على مدى العقود الثلاثة الماضية، مما أدى إلى وضع تصور لبعد اتصال جديد بوصفه تمثيلًا للفضاء السيبراني، الذي يعد من أهم إنجازات الإنسان الحديث، كوسيلة اتصال جديدة تنشأ من أجهزة الحاسوب المترابطة كونيًّا، ويمكن وصف هذا الفضاء بالبيئة الافتراضية التي طورتها أنظمة الحوسبة والمستخدمون الذين يتفاعلون داخلها، أو إن أردنا القول إنه مجال يتميز بالاستخدام المترابط للطيف الكهرومغناطيسي والإلكترونات، والهدف منه هو بناء المعلومات وتعديلها وتبادلها واستخدامها ومشاركتها وحفظها والتخلص منها وتعطيل الموارد المادية.

في الأشهر الستة الماضية فقط زادت الهجمات الإلكترونية عالميا بنسبة 29% مع استمرار استغلال الجهات الفاعلة في التهديد بوباء كوفيد-19، ودخلت المجموعات التي تستخدم تكتيكات برامج الفدية عصرًا ذهبيًا مع تزايد استخدام الابتزاز بوتيرة متسارعة بلغت ما يزيد على 90% في أقل من عام.

تتمثل إحدى القنوات التي يؤثر بها الفضاء السيبراني على السياسة العالمية في التحديات الجديدة التي يفرضها على الأمن الدولي، وتحديدًا في شكل عمليتين عدائيتين: التجسس الإلكتروني والهجمات والجرائم الإلكترونية.

ويمكن أن يؤدي التجسس الإلكتروني وظيفة استخراج المعلومات الحساسة والمحمية، إما لغرض التجسس الصناعي أو للحصول على أسرار حكومية. فوفقًا للتقديرات الحالية، يكلّف التجسس الصناعي الإلكتروني الاقتصاد الأميركي 300 مليار دولار سنويًا، وألمانيا 71 مليار دولار، وكوريا الجنوبية 82 مليار دولار، في حين أن 86% من الشركات الكندية الكبيرة كانت ضحايا التجسس الصناعي الإلكتروني في مرحلة ما.

في جانب الهجمات والجرائم الإلكترونية أضحت التهديدات السيبرانية أكثر خطورة، لا سيما خلال العقد الأخير من هذا القرن، وهي تحدث بوتيرة أكبر وبشكل متسارع، وبعض الإحصاءات المتعلقة بهذه المسألة لعام 2022 تبين لنا خطورة ما يجري؛ إذ إن ما نسبته 85% من انتهاكات الأمن السيبراني ناتجة عن خطأ بشري، ونحو 94% من البرامج الضارة تحدث من خلال البريد الإلكتروني، في حين تحدث هجمات برامج الفدية كل 10 ثوان، ونحو 71% من بين جميع الهجمات الإلكترونية لها دوافع مالية (تليها سرقة الملكية الفكرية، ثم التجسس)، وتقّدر الإحصاءات التكلفة العالمية السنوية للجرائم الإلكترونية بما يزيد على 10.5 تريليونات دولار، وذلك بحلول عام 2025.

ويبدو أن مستقبل الجريمة الإلكترونية بات أكثر قتامة من أي وقت مضى، إذ تُظهر الأبحاث من موقع "سيبر سكيوريتي فينتورز" (Cybersecurity Ventures) أن الضرر الذي تسببه برامج الفدية سنويًا يمكن أن يكلّف الشركات 265 مليار دولار في جميع أنحاء العالم، وبمعدل هجوم كل 10 ثوان للمؤسسات والمستهلكين.

في الأشهر الستة الماضية فقط، زادت الهجمات الإلكترونية عالميا بنسبة 29% مع استمرار استغلال الجهات الفاعلة في التهديد بوباء كوفيد-19، ودخلت المجموعات التي تستخدم تكتيكات برامج الفدية عصرًا ذهبيًا مع تزايد استخدام الابتزاز بوتيرة متسارعة بلغت ما يزيد على 90% في أقل من عام.

الشركة العالمية الرائدة في مجال الأمن السيبراني "تريند مايكرو إنكوربوريتد"، ووفق تقريرها الجديد الذي أصدرته مؤخرا، تشير فيه إلى سيناريوهات توضح كيف سيكون شكل العالم في العقد المقبل، وكيف سيتعامل قطاع الأمن مع الابتكارات المتطورة للجرائم السيبرانية.

ومما جاء في التقرير -الذي يحمل اسم "المشروع 2030" (Project 2030)- أنه بحلول عام 2030 سيؤثر الاتصال بالإنترنت على جميع مناحي حياتنا اليومية، وذلك على المستويين الجسدي والنفسي، وأن الجهات الفاعلة للتهديدات السيبرانية ستطور آلية عملها الخبيثة وتسيء استخدام الابتكارات التكنولوجية.

من أبرز ما جاء في التوقعات الخاصة بالتقرير أن أدوات الذكاء الاصطناعي ستسهم في إضفاء الطابع الديمقراطي للجرائم الإلكترونية لأن البيانات ستكون متاحة للجميع وليس فقط للمتخصصين في مجال تكنولوجيا المعلومات، وستحدث الهجمات فوضى في سلاسل التوريد، وتلحق الأذى الجسدي بالبشر عبر زرع أدوات سيبرانية، وسيكون من الصعب تجنب هجمات الهندسة الاجتماعية والمعلومات المضللة عندما تصبح البيانات متاحة بشكل أوسع عبر "أجهزة عرض البيانات بمستوى الرأس"، كما ستقوم بيئات إنترنت الأشياء الضخمة بجذب مجرمي الإنترنت الذين سيشنون هجماتهم لاستهداف قطاع التصنيع والخدمات اللوجيستية والنقل والرعاية الصحية والتعليم والبيع بالتجزئة والبيئة المنزلية، وبما أننا نرى الاتصال بشبكات (5G) و(6G) في كل مكان، سيؤدي ذلك إلى حدوث هجمات أكثر تطورًا ودقة، كما جاء في التقرير أن القومية التكنولوجية ستصبح أداة جغرافية إستراتيجية رئيسية لعدد من أقوى دول العالم، وذلك في ظل اتساع الفجوة بينها وبين الدول المتأخرة تكنولوجيًّا.

مما لا شك فيه أن الفضاء السيبراني أجبر دولًا على الاعتراف به كحلبة جديدة للصراع. ولسنوات خلت، كانت هناك تحذيرات لخبراء من "بيرل هاربر سيبراني"، أو بمعنى آخر من هجوم رقمي هائل يمكن أن يشل البنية التحتية الحيوية من دون إطلاق رصاصة واحدة. وبهذا المعنى؛ فإن البشرية إزاء مشهد سيبراني يتطور ويتغير باستمرار، وتبدو فيه أكبر قضية مدعاة للقلق هي برامج الفدية التي وصفت بأنها التهديد الأول للأمن السيبراني في عام 2021.

المعطيات تشير في هذا المجال إلى أن معظم الهجمات الإلكترونية تأتي من روسيا والبرازيل والصين، وهي البلدان الثلاثة الأولى التي نشأت فيها الهجمات الإلكترونية، وحول الوقت الذي يستغرقه الكشف عن هذه الهجمات فهو نحو 280 يومًا، في حين تستغرق منظمة نموذجية نحو 197 يومًا لتحديد التهديد، لكن بعض الانتهاكات يمكن أن تتجنب الكشف عنها لفترة طويلة.

بالعودة إلى لغة الأرقام، فقد بلغت قيمة سوق الأمن السيبراني العالمي 156.24 مليار دولار عام 2020، ومن المتوقع أن تبلغ قيمة هذا السوق نحو 352.25 مليار دولار، أي بمعدل نمو سنوي 14.5% بحلول عام 2026، حسب مؤسسة "موردر إنتيلجنس"، ومن المتوقع أن تصل قيمة سوق الأمن السيبراني العالمي إلى 433.6 مليار دولار بحلول عام 2030، وتتوقع دراسات أن تكلف الجرائم الإلكترونية العالم ما يقرب من 600 مليار دولار كل عام.

إن الجرائم الإلكترونية لن تختفي قريبًا، ومن المتوقع أن ينمو عدد أكبر من هذه الجرائم في السنوات القادمة ما دام المكان المفضل في جميع أنحاء العالم لهذه الفئة هو الشبكة العنكبوتية، وسيستمر سوق الأمن السيبراني العالمي في تحقيق نمو أعلى، ومما يبدو أن تكاليف وأضرار الجرائم الإلكترونية أعلى من تلك الناجمة عن الكوارث الطبيعية.

ووفق هذه المعطيات والأرقام، يمكن القول بمزيد من الثقة إن الاختراقات الإلكترونية والهجمات السيبرانية بمختلف أشكالها ستكون في المستقبل أكبر وأسوأ وأكثر كلفة، ولها تأثير مدمّر على البُنى التحتية الحرجة، خاصة مع التزايد السريع للأجهزة المتصلة بالشبكة العنكبوتية، وانتشار المدن الذكية، ونمو استخدام إنترنت الأشياء والتكنولوجيا والمعاملات الإلكترونية والتطبيقات المتعلقة بها.

وتأسيسا على ذلك، بات من الأهمية الكبيرة أن تتبنى الدول والحكومات -خاصة العربية منها- إستراتيجيات تعزز بها أمنها السيبراني وإنشاء وحدات أو هيئات أو مراكز بحثية مختصة بحماية البنى التحتية من المخاطر الإلكترونية، وعلى رأس ذلك الاستثمار في البحث العلمي وزيادة الوعي بهذا المجال وبما يعزّز مستوى الأمن ومواكبة التكنولوجيا والتقنيات الحديثة التي من شأنها أن تجعل الأنظمة الإلكترونية أكثر أمنًا وتماسكًا، وأكثر قدرة على مواجهة التحدّيات، وأهم هذه التحديات إنترنت الأشياء وتطبيقات الذكاء الاصطناعي بمختلف أنواعها.

فمسألة حماية الفضاء السيبراني مسألة في غاية الأهمية للبشرية بأسرها، لأن هذا الفضاء أو هذا العالم -إن صحّ التعبير- بات في خدمة الجميع، وفي شتى مجالات الحياة، لا تحده الجغرافيا ولا يعيقه الزمن. فما بقي من الوقت كثير لدفن الرؤوس في الرمال تفاديًا للمجهول القادم على أجنحة السحاب في فضاء سيبراني لا نهائي وغير محدود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.