مصر وتركيا.. خطوات تقارب حذر

أردوغان والسيسي
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (يمين) والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (رويترز)

"تحدثت مع السيسي لمدة 45 دقيقة وكان سعيداً جداً بلقائنا، وقد عبرنا أيضا عن سعادتنا لذلك. عملية بناء العلاقات مع مصر سوف تبدأ باجتماعات على مستوى الوزراء، وبعدها يتم تطوير العلاقات، فلا توجد خصومة دائمة في السياسة". هكذا تحدّث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -قبل أيام- عن لقاء جمعه مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، ومصافحته له على هامش افتتاح كأس العالم، وذلك بحضور أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.

وحقيقة الأمر، فإنه خلال العامين الأخيرين حدثت تحولات لافتة في العلاقات المصرية التركية والتي عانت على مدار عقد تقريباً من التوتر والفتور والخصومة بين الطرفين، وذلك على خلفية الأحداث التي وقعت في مصر صيف عام 2013، وما لحق ذلك من توترات إقليمية ساهمت في تعقيد العلاقة بين البلدين.

تعود جذور الأزمة بين القاهرة وأنقرة إلى رفض الأخيرة الإطاحة بحكم الرئيس الراحل محمد مرسي، وما تبع ذلك من أحداث ومآسٍ كان أبرزها مذبحة رابعة العدوية التي راح ضحيتها ما يقرب من 800 شخص وهو ما أدانته تركيا وقتها بشكل قاطع، مما دفع القاهرة إلى استدعاء سفيرها في أنقرة عشية وقوع المذبحة في أغسطس/آب 2013. وفي نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، قامت القاهرة بطرد السفير التركي مما أدى إلى إحداث قطيعة في العلاقات بين البلدين بشكل غير مسبوق.

ولعل أبرز الملفات التي أدت إلى توتر العلاقة بين القاهرة وأنقرة تتمثل أولاً في ملف العلاقة بين تركيا وجماعة الإخوان المسلمين، حيث وفرت أنقرة ملاذاً آمناً لأعضاء وقيادات الجماعة. كما سمحت لبعض النشطاء ورموز المعارضة المصرية بإنشاء منصّات إعلامية تعارض النظام المصري طيلة السنوات الماضية. وهو ما أثر سلباً على نظرة القاهرة لأنقرة معتبرة ذلك تدخلاً في شؤونها الداخلية.

أما الأمر الثاني فهو الملف الليبي حيث يقف البلدان على طرفي نقيض من الصراع هناك. ففي الوقت الذي دعمت فيه القاهرة -ولا تزال- جبهة الشرق في بنغازي والتي يقودها العقيد المتقاعد خليفة حفتر، دعمت أنقرة -ولا تزال- الحكومة الليبية في طرابلس التي كان يترأسها فايز السراج سابقاً، ويقودها حالياً عبد الحميد الدبيبة. ولم يتوقف الأمر عند الدعم السياسي والدبلوماسي فقط، ولكن الطرفين وفّرا أيضا دعماً عسكرياً واستخباراتياً ولوجستيا لحلفائهما داخل ليبيا.

أثار الدور التركي في المنطقة العربية، خاصة منذ بدايات الربيع العربي، حفيظة العديد من البلدان خاصة مصر والسعودية اللتين تحالفتا مع الإمارات من أجل الحد من تداعيات ذلك الدور على مصالحهما ونفوذهما الإقليمي

أما الملف الثالث فهو ملف غاز شرق المتوسط. فعلى مدار السنوات الخمس الماضية تم اكتشاف كميات هائلة من النفط والغاز شرق البحر المتوسط، وهو ما أدى إلى زيادة حدة الصراع والتنافس بين دول تلك المنطقة، وإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية بها.

فعلى سبيل المثال، قامت مصر أوائل عام 2019 بإنشاء ما يسمى "منتدى غاز شرق المتوسط" الذي يضم دولاً من جنوب وشرق البحر المتوسط كالأردن وفلسطين وإسرائيل ولبنان وقبرص واليونان وإيطاليا وفرنسا، وتم استثناء تركيا رغم أنها من الدول المهمة في حوض البحر المتوسط، وهو ما فهم من جانب أنقرة باعتباره تحديا وإقصاء لها، خاصة وأن المنتدى يضم دولاً في حالة خلاف سياسي وجيوإستراتيجي مع أنقرة مثل قبرص واليونان.

لذلك ردت تركيا على هذه الخطوة بتوقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا أواخر عام 2019، الأمر الذي أثار حفيظة مصر ودفعها لترسيم حدودها البحرية مع اليونان، الخصم اللدود لأنقرة في منطقة المتوسط.

أما الملف الرابع فهو النفوذ الإقليمي للقاهرة وأنقرة في المنطقة. فقد أثار الدور التركي في المنطقة العربية، خاصة منذ بدايات الربيع العربي، حفيظة العديد من البلدان خاصة مصر والسعودية اللتين تحالفتا مع الإمارات من أجل الحد من تداعيات ذلك الدور على مصالحهما ونفوذهما الإقليمي. وهو ما وضح بجلاء خلال الأزمة الخليجية التي شهدت تحالفات إستراتيجياً بين قطر وتركيا في مواجهة دول الحصار.

هذه الملفات لعبت دوراً مهماً في توتر العلاقات بين القاهرة وأنقرة على مدار السنوات الماضية. ولكن مع قدوم الإدارة الأميركية بقيادة جو بايدن أوائل عام 2021 وإتمام المصالحة الخليجية، بدأت العلاقات بين مصر وتركيا تشهد نوعاً من التقارب الحذر، وذلك من خلال محاولات تقليل مساحات الاختلاف وزيادة مساحة التلاقي بينهما. فعلى مدار العام الماضي، أرسل الجانب التركي إشارات إيجابية عديدة حول الرغبة في تحسين العلاقات مع القاهرة. وقد تُرجمت هذه الإشارات في عقد أول لقاءات رسمية بين الطرفين.

ففي مايو/أيار الماضي، زار وفد من وزارة الخارجية التركية القاهرة حيث التقى نظراءه في الخارجية المصرية، وذلك لإجراء ما أسماه الطرفان "مشاورات استكشافية" من أجل النظر في تحسين العلاقات بين الجانبين. بعدها بشهور قليلة، وتحديداً في السابع من سبتمبر/أيلول الماضي، زار أنقرة وفدٌ من وزارة الخارجية المصرية يترأسه السفير حمدي لوزا مساعد وزير الخارجية، والتقى بنظرائه الأتراك لاستكشاف كيفية تطوير العلاقات.

في نفس الوقت، أخذت أنقرة عدة خطوات إيجابية لإبداء حسن نيتها وجديتها في تحسين العلاقات مع مصر، منها على سبيل المثال وقف البث الإعلامي لقناة "مكملين" المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين، والطلب من بعض الوجوه الإعلامية المعارضة التوقف عن انتقاد النظام المصري، وهو ما اضطر بعضهم لمغادرة البلاد.

أما اللافت فهو أن العلاقات التجارية والاقتصادية بين القاهرة وأنقرة لم تتأثر كثيراً بسبب الأزمة بين الطرفين. بل على العكس من ذلك، فقد تطورت وازدادت هذه العلاقات خلال الفترة الماضية، وهو ما يتضح من زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين متجاوزا 11 مليار دولار خلال العقد الفائت. وهناك زيارات مستمرة لرجال الأعمال الأتراك للقاهرة، وبالعكس.

ورغم هذا التحسن الملحوظ، إلا أن ثمة ملفين لا يزالان عالقين أمام تطوير العلاقات المصرية التركية. الأول هو الملف الليبي، حيث لا يزال الطرفان يدعمان جبهات متصارعة في ليبيا. والثاني هو ملف ترسيم الحدود البحرية بين البلدين. ولكن تظل فرص التوصل لتفاهمات لحل هذين الملفين أمراً ممكناً خلال الشهور المقبلة.

لذلك، فإن التطورات الأخيرة -على مستوى القاهرة وأنقرة- تشي بأن تحقيق (عودة/تحسين) العلاقة بينهما باتت اليوم أقرب بكثير مما كانت عليه طيلة العقد الماضي، وأن تطبيع العلاقات بشكل كامل لم يعد سوى مسألة وقت. ولن نستغرب كثيراً إذا ما قرأنا في الأخبار أن الرئيس أردوغان قرّر زيارة القاهرة خلال الشهور القليلة المقبلة، وهو ما يعني فتح صفحة جديدة في العلاقات بين تركيا ومصر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.