يحبه أردوغان والشباب التركي.. من هو شاعر الحب والمقاومة "كاراكوتش"؟

الكاتب والشاعر التركي سازاي كاراكوتش (الجزيرة)

في شهر أكتوبر/تشرين الأول، رحل الشاعر الكبير وأحد المفكرين الإسلاميين البارزين في تاريخ تركيا سازاي كاراكوتش (Sezai karakoç) عن عمر ناهز 88 عامًا. وقد شارك في تشييع جنازته عشرات الآلاف من الناس من مختلف الفئات العمرية. هذا الحشد الكبير وهذه المشاركة الضخمة من الناس هما ما يدعو للتوقف والتفكّر في مسيرة هذا الشاعر.

بدأت مسيرة كاراكوتش في الكتابة لأول مرة في منتصف خمسينيات القرن الماضي مع مجلة "بويوك دوغو" -أي الشرق الكبير- حيث تعرّف إلى الشاعر والمفكر الإسلامي الكبير "نجيب فاضل"، الذي يعتبر أحد أهم المفكرين الإسلاميين في تلك المرحلة المبكرة من تأسيس الجمهورية التركية

يحتل هذا الشاعر مكانة خاصة في قلوب الأتراك، ولا سيما رئيسهم رجب طيّب أردوغان وأوساط حزب العدالة والتنمية. ويُذكر أن الرئيس أردوغان استشهد بأشعاره في الكثير من المناسبات.

تميّز سازاي كاراكوتش بشخصية فريدة. في المراحل الأولى لتأسيس الجمهورية التركية وبسبب تطبيق المبادئ العلمانية الصارمة حتى عام 1950 كانت دروس تحفيظ القرآن الكريم ممنوعة في كليات ومدارس الشريعة، وأغلقت أبواب المدارس الشرعية. وكان التفكير الإسلامي وممارسة الشعائر الدينية ممنوعًا، إلى جانب حظر طباعة القرآن بالعربية.

في تلك المرحلة، حتى الأذان كان يُرفع باللغة التركية. وتمثل الهدف من فصل الدين عن الدولة ومؤسساتها في تكوين جيل بعيد عن دينه وعن تعاليم الإسلام. في تلك الفترة، لم يكن وضع الإسلام في العالم مختلفا عن حاله في تركيا، ولم يكن للمسلمين تمثيل سياسي.

لهذا السبب، لم يكن اسم المسلمين يُذكر في المحافل الدولية، ومع إنهاء الخلافة كان واقع الإسلام يحتضر يوما بعد يوم. في الأثناء، كان الشاعر سازاي كاراكوتش يقود نُقلة جديدة للفكر الإسلامي تحت شعار "المقاومة"، التي مثّلت جوهر أغلب أعماله الأدبية.

بدأت مسيرة كاراكوتش في الكتابة لأول مرة في منتصف خمسينيات القرن الماضي مع مجلة "بويوك دوغو" -أي الشرق الكبير- حيث تعرّف إلى الشاعر والمفكر الإسلامي الكبير "نجيب فاضل"، الذي يعتبر أحد أهم المفكرين الإسلاميين في تلك المرحلة المبكرة من تأسيس الجمهورية التركية، حيث درس في جامعة إسطنبول وباريس والتحق بقسم الفلسفة بجامعة السوربون.

تحول المفكر الكبير نجيب فاضل إلى التصوف كردة فعل على حياة المجون التي عاشها في بداية حياته، وكتب ما يزيد على 100 كتاب في التاريخ والسياسة والشعر والعديد العديد من الروايات والمسرحيات التي تُرجم الكثير منها إلى العربية مثل مسرحية "خوف إنسان" التي تتحدث عن الموت والخوف من النهاية.

في 1943 أصدر فاضل مجلة الشرق الكبير الذي كانت ذات طابع شرق إسلامي أخلاقي، ثم تدهورت حالته الصحية في تلك الفترة التي قضّاها بين كتبه وأشعاره وأصدقائه المقربين. وقد كتب شيئا من الشعر قبل وفاته عن الموت واقتراب الأجل يقول فيه: "أهذا ما يسمونه الموت؟ الموت شيء جميل، فهو إخبار من وراء الحجاب فإن لم يكن جميلا أكان يموت نبي الأنام"، وقد توفي ودفن في منطقة أيوب بإسطنبول، وقد تأثّر شاعرنا "سازاي كاراكوتش" بهذا المفكر الكبير -نجيب فاضل- وتشبع بكتبه ومؤلفاته.

كما تأثر كاراكوتش أيضًا بالشاعر محمد عاكف أرسوي الذي درس وتعلم العربية وكان له العديد من المؤلفات مثل مجلة "الصراط المستقيم"، وعين بجامعة إسطنبول لتدريس الأدب العربي بين العربية والتركية.

كتب عاكف نشيد الاستقلال الذي أقره البرلمان التركي ليكون نشيدا رسميا لتركيا في 12 مارس/آذار عام 1921، وكان هناك 700 متسابق قدموا أناشيدهم قبله فلم يفز أي منهم، ومما جاء في هذا النشيد:

""أنت ابن شهيد حذار من أن تؤذي أباك، لا تتخل عن هذا الوطن الجنة وإن امتلكت العوالم، أيها الهلال الجميل لن تُمزَّق سأفديك بنفسي…" إلى آخر ما جاء في النشيد الذي ردده ويردده مئات الملايين من الأتراك منذ قرابة 90 عاما إلى يومنا هذا.

على الرغم من أن شاعرنا كاراكوتش لم يلتق عاكف أبدًا (الذي توفي عندما كان كاراكوتش في الثالثة من العمر)، فإنه تأثر به بشكل كبير من خلال أعماله وكتاباته التي قرأها له لاحقا.

وقد مثلت أعمال هذا الشاعر وغيره من المفكرين مصدر إلهام للشباب التركي في المراحل الأولى لتأسيس الجمهورية، وحتى اليوم لا تزال نخبة حزب العدالة والتنمية تستلهم من كتابات هؤلاء الشعراء.

خلال المراحل الأولى من تأسيس الجمهورية، كان تأثير الأدب والشعر كبيرًا على التيار الإسلامي بشكل يفوق حتى تأثير علماء الدين والفقهاء. ومن هذا المنظور، يبدو أن المسار الذي اتخذه الفكر الإسلامي في تركيا وكيفية تطوره يختلف عما شهده العالم العربي. ومن المثير للاهتمام أن تأثير العلماء والفقهاء لم يكن بقدر تأثير مفكرين على غرار نجيب فاضل وسازاي كاراكوتش ونوري باكديل وعصمت أوزال. وقد لعب هؤلاء الشعراء دورًا فاعلا في تجديد الفكر الإسلامي والارتقاء بالمشاعر الإنسانية.

يشدو ملايين الشباب التركي بقصائد الشاعر سازاي كاراكوتش بل يحفظونها أيضا، ولا سيما قصائد العشق التي كتبها في ريعان شبابه والتي تعكس إحساسه المرهف، ومن أشهرها القصائد التي تغنى فيها بحُبّ الوطن

وُلد كاراكوتش في منطقة أرجاني في ديار بكر في 22 يناير/كانون الثاني 1933، وبعدها تم نشر قصائده في المجلات الأدبية، أثناء دراسته في جامعة أنقرة كلية العلوم السياسية.

وفي عام 1967 حوكم على كتابه "بعث الإسلام" ومع تأسيسه حزب الإحياء (البعث) فتح صفحة مختلفة في حياته عام 1990. وقد كتب العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه والكتب حول كاراكوتش، الذي ترك إرثا فكريا وأدبيا كبيرا لتركيا.

تخرج كاراكوتش من كلية العلوم السياسية في جامعة أنقرة وعمل في القطاع المالي لسنوات عديدة. وكان من رواد الأدب التركي الذي سعى إلى مد الجسور بين المعتقدات الإسلامية التقليدية وتقنيات الشعر الحديث.

ويشدو ملايين الشباب التركي بقصائد الشاعر سازاي كاراكوتش بل يحفظونها أيضا، ولا سيما قصائد العشق التي كتبها في ريعان شبابه والتي تعكس إحساسه المرهف، ومن أشهرها القصائد التي تغنى فيها بحُبّ الوطن. ومن بين أكثر قصائده شهرةً قصيدة "مونا روزا" التي عبّر فيها عن عشقه لفتاة شاركته مقاعد الدراسة، وبعضٌ مما قاله فيها:

ما أسرع مرور الزمان يا مونا
في منتصف الليل، انطفأت الأنوار
نامي كي تدخل الكراكي إلى حلمكِ
لا تنظري بحيرة إلى السماء
فالزمن يشيخ بسرعةٍ يا مونا

روزا، لا تنظري إلى وجهي بانكسار
قبل أن تسمعي مني أغنياتي
فحبي لا يسع لكل وتر
أجمل الأغاني تلك التي يترنم بها الرصاص
روزا، لا تنظري إلى وجهي بانكسار.

صدقيني يا ابنة المهاجر
اصغي لي، واقبلي اعترافاتي
ثمة ألم بارد، ووجع قريب
يحاصر كاللهبِ كل اتجاهاتي
صدقيني يا ابنة المهاجر.

الشرفات حواجز للشجاعة في البيوت
لو أن طفلا سقط، فسيموت
بعد فقدان الأطفال ستختفي آخر الابتسامات
وتبقى أيادي الأمهات مشلولة على حاجز الشرفات

الشرفات تأخذ حجم التوابيت
في داخلي شرفات وشرفات
تنشر فيها ملابس ناصعة البياض كالأكفان
وثمة موتى ينتظرون في المقاعد الفارهة

في الأزمنة القادمة
سيدفنون الموتى في الشرفات
موتى لن يستريحوا حتى بعد الممات
لا تسأليني عن اتجاهي
فأنا في طريقي لتقبيل جباه المهندسين
الذين شيدوا بيوتا دون شرفات

ولكن الأقدار أبت أن تجمع بينهما. ووفاءً لهذا الحب، لم يشأ الزواج طوال حياته لتكون أطوار حياته أشبه برواية.

لم يكن كاراكوتش شاعرًا متفردًا في أدبه فقط، بل كان لا ينتظر مديحًا أو ثناءً من أحد لدرجة أنه رفض العديد من الجوائز، من بينها جائزة قدّمتها له رئاسة الجمهورية التركية لم يرفضها لكنه لم يذهب لاستلامها.

عاش كاراكوتش طوال حياته لا ينتظر أجرا ماديًا أو سلطةً أو اعترافًا من أحد، وينطبق عليه ما ورد في الآية الكريمة (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (سورة يس/21).

ومع أن هذا الشاعر الكبير كان يحظى بتقدير واحترام كبيرين من أوساط حزب العدالة والتنمية، فإنّه مع ذلك لم يكن يوما تابعًا لأي طرف سياسي.

ويمكننا القول إن فهم طريقة تفكير سازاي كاراكوتش يعني فهم أحد روافد الحركة الإسلامية في تركيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.